دكًة الجدات ووشم السيدات

بقلم د عضيد ميري

“في العراق، حتى الوشم له ماضي وحاضر متضاربان” هكذا يبدأ مقال الكاتب أحمد ويندي الصادر عام 2023 بعنوان “وشم جداتنا”، إذ كان لدى كلا جدتيه وشم تقليدي، بينما لم يكن لدى والدته – المولودة في الستينيات – أي وشم، ومن الطبيعي أن هذا دعا الى فضوله وتساؤلاته؟ ويقال إن كلمة “وشم” نشأت من الكلمة التاهيتية “تاتو”، والتي تعني وضع علامة على شيء ما.

الخطوط والنقاط

في مصر القديمة، كان الوشم فوق العينين شائعاً لاعتقادهم بأنه يقوي البصر، واستخدمها اليونانيون كدليل على الخيانة؛ حيث كان لدى الجواسيس وشم مرسوم على أجسادهم، كما استخدمها الرومان في ساحات المصارعة، حيث كان يتم وشم كل مصارع بصورة الحيوان الذي كان يصارعه.

لقد عرف الفراعنة الوشم منذ آلاف السنين. واستخدمت على النساء لأغراض تجميلية مع غياب المساحيق الملونة، خاصة حول الحواجب والشفاه لتغميقها وتكبيرها وكذلك حول الرقبة، حيث تم وخزها بإبر على شكل قلادة واسعة.

وفي المعتقدات الطبية القديمة فإن من أهم فوائد أو فوائد أصل الوشم أنه بمثابة وسيلة شفاء للمؤمنين والمتدينين. على سبيل المثال، استخدمت مصر والهند القديمة الوشم كتقنيات علاجية، وكان يعتقدون أن الوشم حول الأصابع ومنطقة المعصم من الجسم يطرد المرض بعيدا عمن له وشم يرتديه.

انتقل الوشم من حوض البحر الأبيض المتوسط إلى إنجلترا، حيث انتشر بين أفراد الأسرة الحاكمة قبل أن تنتقل الممارسة إلى قارة أوروبا وفي القرن التاسع عشر، وكان بحارة الأسطول الملكي يرسمون وشم السلحفاة على من يعبرون خط الاستواء، ووشم المرساة على من يعبرون المحيط الأطلسي، وإذا وصلوا إلى الصين، كان وشم التنين هو المكافأة الثمينة على أجسادهم. وفي البداية، كان الوشم في الولايات المتحدة علامةاً للبحارة والطبقات الدنيا.

وظهر فن الوشم في اليابان حوالي عام 500 قبل الميلاد، حيث تم استخدامه لأغراض تجميلية ودينية خاصة باليابانيين، أو كعقاب للمجرمين، وفي روسيا اعتاد القياصرة الروس على رسم الوشم على السجناء بحسب جرائمهم وعقوباتهم، تماماً كما قام النازيون بوشم سجنائهم اليهود وغيرهم بأرقام تسلسلية في معسكرات الاعتقال خلال الحرب العالمية الثانية.

في العراق

على الرغم من أن العديد من الديانات تحظر ممارسة الوشم، إلا أن معظم الأجداد والجدات الكلدانيين كانوا يحملون الوشم على أجسادهم واجسادهن على الرغم من أنهم كانوا متدينين بشدة. كان الوشم في العراق شائعًا منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر وحتى ستينيات القرن العشرين. استخدمت النساء الوشم بدلاً من المكياج، وكان الرجال العراقيون يقومون بوشم أطرافهم لإضافة سمات القوة على أذرعهم وأرجلهم.

وكان الوشم، أو “الدكة” كما يُطلق عليه محلياً في العراق، ظاهرة اجتماعية، حيث يستخدم فنانوا الوشم سلسلة من ضربات ووخز الأبر لثقب الجلد حتى يتمكن اللون من اختراقه والاستقرار تحت طبقة الجلد. ولفترة طويلة، حرصت الأمهات على إرسال بناتهن إلى “الدكًاكًة” الخبيرة لرسم الوشم حتى يبدوا جميلات وملفتات للنظر، ويحافظن على قيم القبيلة التي يرونها زينة وعادات عامة ذات أهمية.

وتتميز النساء من مختلف القبائل في انحاء العراق بأنواع وهندسة الدكًة التي يتزينن بها. ومنها ال “دكًة الخزعلية” التي هي نوع من الوشم منتشر بشكل كبير بين النساء في جنوب العراق. وهي عادة ثلاثة نقاط (نونه) تقع بين الشفة السفلى والذقن، أو على اليدين والحاجبين. وكانت الأعراف الاجتماعية في السابق تعتبر ظاهرة الوشم أو “الدكًة” التي ترتديها المرأة جزءا من هويتها وتراثها، لكن هذه النظرة بدأت في التراجع، خاصة بعد صعود المد الديني الذي أثر بشكل كبير على بعض العادات واعتبرها محرمة.

كان الوشم الأكثر شيوعًا للنساء في فترة ما قبل الستينيات هو “النونة”، وهو شكل دائري صغير بين العينين مستوحى من “بيندي” الهندوسية؛ وهي تشمل علامات على طرف الأنف والشفة العليا والذقن، أو علامة منقطة من الذقن إلى الأسفل، تسمى “ أثر النمل” أو ثلاث نقاط على شكل مثلث بلا خط على اليد تمثل الحياة والأسرة والصحة. وعادةً ما يضع الرجال على نقطة أو نقطتين على الوجه، مما يشير إلى صراع، أو نقاط لكل فرد من أفراد الأسرة في الجزء العلوي من الظهر، أو وشم باسم شخصية مهمة، وأحيانًا دينية (الله، محمد، إلخ).

شكل عام 1963 نقطة تحول في العراق حول تقييم النظر إلى العديد من العادات القديمة، وهي فترة تعدد فيها الانقلابات والاضطرابات التي ضربت المجتمع مع ظهور الاتجاهات الدينية التي اجتاحت الحياة المجتمعية وتوقفت الأجيال التي اعتادت الحصول على الوشم عن القيام بذلك بعد أوائل الستينيات، وبعد عام 2003 في العراق، تعرضت مراكز التجميل والصالونات التي يمكن رسم الوشم فيها للإغلاق بسبب انتشار الأفكار الدينية المتطرفة والتهديد والقتل.

الوشم والدين

تم استخدام الوشم لتمييز الشخص وتعريف الآخرين به وبقبيلته، وكان يستخدم في مراسيم الاحتفالات وفي بعض المناسبات كالزواج وأعياد الحصاد وأثناء الحروب. وكان الوشم يستخدم لطرد الأرواح ومحاربة الشيطان والقضاء على السحر الأسود والحماية من الحسد، ويستخدم لعلاج بعض الأمراض. واستخدمتها القبائل الإفريقية على شكل إشارات ورموز على الجسد كاختبار لتحديد الهوية في المجتمعات البدائية التي لا تقرأ.

وكان الوشم يعتبر عملاً بدائياً تقوم به المجتمعات التقليدية، وأدى هذا التركيز والإقناع إلى التراجع التدريجي للوشم في أوروبا. وكان الدافع وراء هذا الانخفاض الكبير هو حظر الإمبراطور قسطنطين للوشم، إذ كان يعتقد أن جسم الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله ولا ينبغي تدميره بالعلامات والوشم.

يُعزى الانخفاض في جيولوجيا الوشم إلى المبشرين المسيحيين، الذين دافعوا عن مبادراتهم بالتوعية ضد وضع الوشم في مختلف المحافل والاجتماعات وأقنعوا أفراد المجتمع بعدم اختراق الأمور الغريبة أجسادهم، واعتبروا الوشم على أنفسهم بمثابة أعمال غير مقدسة لا ينبغي تشجيعها والقيام بها.

في الأرض المقدسة

يعود تقليد الوشم الذي تشير السجلات المكتوبة إلى القرن السابع عشر على الأقل وربما قبل ذلك بكثير في الأراضي المقدسة والبلدة القديمة في القدس وفيها يقع اليوم محل قديم عريق لفن الوشم/صناعة التوابيت التابع ليعقوب رزوق، حيث جلبت عائلة رزوق فن الوشم معهم من مصر إلى فلسطين منذ خمسة قرون حين جاؤوا إلى الأراضي المقدسة للحج لكنهم بقوا للتجارة.

وبما أن هذا الفن موجود في أجيال من الأسرة منذ 700 مائة عام، بدءًا من مصر، بدأت الأسرة لكسب لقمة العيش في رسم الوشم للحجاج المقدسيين الذين يزورون القدس.

والزائر سيجد في محل الوشم/صناعة التوابيت التابع ليعقوب رزوق تصميمات للكتل الخشبية فريدة من نوعها تم نحتها بتصميمات متنوعة أغلبها مسيحية قبطية، وأبرزها بالطبع صليب القدس الذي استخدمه المقدسيين (حجاج القدس) إلى المدينة المقدسة ولعدة قرون كرمز إيماني لإحياء ذكرى رحلاتهم ومنهم مشاهير مثل الملك إدوارد السابع ملك إنجلترا والملك فريدريك التاسع ملك الدنمارك.

استخدم أسلاف رزوق الوشم لتمييز الأقباط المسيحيين في مصر بصليب صغير على الجزء الداخلي من المعصم لمنحهم إمكانية الوصول إلى الكنائس، ومن لا يملكها كان يواجه صعوبة في دخول الكنيسة؛ لذلك، منذ سن مبكرة جدًا (أحيانًا حتى بضعة أشهر) كان المسيحيون يقومون بوشم أطفالهم بالصليب الذي يشير إلى أنهم أقباط.

قوة هذه الأوشام تأتي من القصص التي يعرفونها ويروونها ذات صلة بهم، وهناك شيء سحري في معرفة أن العمل الفني الذي يتم نقشه بشكل دائم على الجسد هو نفس العمل الفني الذي كان وشمهُ وامتلكه شخص ما منذ مئات السنين أيضًا.

أحد أشهر انواع الوشم هو صليب القدس بسبب معناه التاريخي العميق، حيث يمثل رمز الصليب المركزي مدينة القدس كمركز للعالم، وتمثل زوايا الأطراف الأربعة على الصلبان المسيحية المنتشرة في أركان العالم الأربعة. وعندما يأتي المقدسيون من جميع أنحاء العالم، ويتم وشمهم بعلامة الصليب يصبحون جزءًا من القدس، وتصبح القدس جزءًا منهم.

الوشم اليوم

على الرغم من أن الوشم الدائم محظور بموجب الشريعة الإسلامية، إلا أنه خلال فترات الحروب في العراق، قام العديد من الرجال بوشم أسمائهم على أجسادهم لأغراض التعرف عليهم في حالات الضرورة والموت إذا لم ينجوا من الصراع.

بعد الغزو الأمريكي عام 2003، أصبح من الممكن رؤية نوع مختلف من الوشم على الشباب العراقي، وأصبح فن الوشم، المستوحى من العضلة ذات الرأسين الموشومة للجنود الأمريكيين، نوعًا مختلفًا من التعبير عن الذات وتقليد شائع. ومن الظواهر المجتمعية الحديثة، نجد بعض النساء العراقيات لديهن وشم للحواجب، ووشم للشفاه، وككحل للعيون.

الأمور الفنية والمجتمعية تغيرت الآن، نظرًا للتقنيات الحديثة ومستوى الوعي في العصر الحديث وحقيقة أن حرفيي الوشم أصبحوا أكثر قدرة وفناً وحرصاً، فقد تحرك نمط ولون ونوع الوشم ليصبح لوحة فنية واختيار فردي. في أوروبا الرجال أكثر تقبلاً للوشم، وخاصة المشاهير منهم وأصبح الوشم الفرعوني شائعا بين مشاهير العالم بحسب صحيفة الحياة اللندنية.

التراث الشعبي العراقي - دكًة خزعليه

كثيرًا ما نسمع عن “الدكًة الخزعليّة”، خصوصًا في الأغاني الفلكلورية القديمة. ومنا من يسأل، لماذا هذا المثل أو الأغنية وما هي القصة المحددة وراءها أو سبب تسميتها ولماذا تغنى بها الشعراء والفنانون ولماذا فعلوا ذلك؟

توجد العديد من القصص في التراث الشعبي العراقي لشرح تاريخ الدكة. قصة شعبية ترتبط بزمن الأمير حمد الحمود، شيخ عشيرة الخزاعل في جنوب العراق، الذي كان معارضاً للاحتلال العثماني، وخاض في زمانه حروباً كثيرة ضد الجيش التركي، دارت رحاها ذهابًا وإيابًا، لكن في معركة حاسمة مع العثمانيين، حقق الأمير حمد نصرًا رائعًا، وبسبب تلك المعركة يقال إن كل معركة أو قتال عشائري تسمى في اللهجة العراقية “الدكًة”. فيحتفل الشعراء عادة بالانتصارات، وينشد المغنون البطولات، وكانت أغاني الاحتفال بالنصر في معركة بن حمود بمثابة هزيمة كبيرة للجيش العثماني و”دكًة خزعليه” كبيرة نسبة لعشيرة الخزاعل البصرية.

وقصة أخرى “للدكًة الخزعلية” تعود الى حقيقة أن المندوب السامي البريطاني في العراق بعد الحرب العالمية الأولى اعتبر شيخ المحمرة (خزعل الكعبي) مثيرا للمشاكل وليس حليفا للتاج البريطاني، وتأسياً على ذلك حدثت كارثة تاريخية لعربستان والشيخ خزعل عندما دبرت مؤامرة بين الإنجليز والفرس عام 1925 إذ في إحدى الليالي تآمر القائد العسكري الفارسي، الذي كانت تربطه صداقة شخصية بالشيخ خزعل، لاستضافته على متن قارب فارسي (خوزستان) مزين بالأعلام ومضاء بالأضواء، وسحر الشيخ بكلام معسول لاستدراجه بينما هو يخفي الخيانة والغدر، وأخفى تفاصيل نوايا وخروج وابحار السفينة من ميناء شط العرب، وسرعان ما قاد المتآمرون الشيخ خزعل الكعبي امير عربستان والمحمرة إلى المنفى في طهران.

وأصبح خداع البريطانيين والإيرانيين للشيخ خزعل والكارثة التاريخية التي حلّت بأماراته نموذجا شعبيا ورمزا حزينا للغدر والخيانة، وبالتالي، في الثلاثينيات، تم تلحين وغناء أغنية تراجيدية للمطربة بدرية أنور، قال الشعراء في البداية “يا دكًة بن حمود دكًة خزعلية” ثم غيرت فيما بعد إلى “يا دقة المحبوب دقة خزعلية” وغناها فنانين مشهورين مثل ناظم الغزالي، سليمة مراد، يوسف عمر، فؤاد سالم، حمزة السعداوي، ساجدة عبيد وغيرهم كثير وذلك لجمال الكلمات وصدق المشاعر.

ولا تزال كلمات وأصداء التوسل في الأغنية تتردد حتى يومنا هذا في الفلكلور العراقي للدلالة على الخيانة المؤلمة ويصدح بها المطربون” خيّة أوصي المار ما يقبل وصيّة – ويا دكًة المحبوب دكًة خزعلية”.

المصادر: ويكيبيديا، الباحث العراقي محمد عجاج الجميلي، الجزيرة نت، طاهر عبد، أربعة قرون من تاريخ العراق/تعريب جعفر الخياط، حميد رحيم الخزاعي، ناجي جواد الساعاتي، جون كارسويل، وجيسون هاريس، وغادة علي، وحميد مجيد، وعلاء كًولي.