جَوهرة الحُلي وتاريخ المُجوهرات في بلاد ما بين النهرين

بقلم د. عضيد ميري

يأخذنا استكشاف جاذبية المجوهرات والأحجار الكريمة العتيقة في رحلة عبر الزمن، لنستكشف القصص والجمال الموجود داخل هذه الكنوز العتيقة إذ لعبت المجوهرات دوراً مهماً في الحضارات والمجتمع وتاريخه الطويل وتم العثور على العديد من الأحجار الكريمة وقطع المجوهرات الفريدة من نوعها بين كل الحضارات القديمة وفي جميع أنحاء العالم.

تتمتع هذه الأحجار الكريمة الرائعة بجاذبية مغناطيسية، تجذبنا بسحرها الفريد وأهميتها التاريخية بدءًا من الكنوز المبهرة التي وجدت في مقبرة الملوك السومرية في اور الى النقش المنحوت بشكل معقد في اثار فراعنة مصر القديمة حيث تقدم هذه المجوهرات العتيقة لمحة عن الحرفية والتأثيرات الثقافية والقيم المجتمعية في العصور الخاصة بكل منها.

وإذ نحن في موسم عيد الأعياد وأيام تبادل الهدايا، قد تجذب هذه المقالة القراء وتُشوّقُ وتُسلّي وتثقِّفُ وتحملُ مشاهدِ من ماضي الإنسان الرافديني وحاضرِهِ في إطارٍ من المعرفة وسعة الخيال، إذ تكمن جاذبية المجوهرات والأحجار الكريمة في قدرتها على نقلنا إلى عصور مختلفة، وإظهار الفن والتاريخ والتأثيرات الثقافية في تلك العصور، وتأسر هذه الكنوز العتيقة القلوب بقصصها الفريدة وبراعتها الرائعة وندرتها وجمالها الخالد وإمكاناتها الاستثمارية، وسواء كنتم من عشاق التاريخ، أو عشاقً للمجوهرات الراقية، أو سعاة للهدايا ، فإن هذه المقالة تقدم رحلة آسرة ومجزية إلى الماضي ودور صاغة بلاد ما بين النهرين في صنع وصياغة فن المجوهرات.


مقدمة

تاريخ المجوهرات طويل ويعود إلى قرون عديدة استمرت لآلاف السنين، وللجواهر العديد من الاستخدامات التي تختلف بين الثقافات المختلفة وقدمت رؤى مختلفة حول أهميتها في الثقافات القديمة، إذ كانت الحضارات القديم تقدّر أهمية الجواهر وزينة وجوهرة الأشخاص وتعكس مكانتهم الاجتماعية والفكرية ومنزلتهم الدينية حيث يرجع استخدام الجواهر في الزينة والدين والسياسة إلى الأف السنين.

تعتبر المجوهرات العتيقة بمثابة نافذه عن الماضي وروابط ملموسة لتاريخنا الغني، مما يسمح لنا بالتعمق في حياة وتجارب أولئك الذين اعتزوا بها ذات يوم، إذ يحكي كل تصميم وحجر كريم قصة تعكس الأذواق، والمعتقدات، والتطلعات، والطقوس والأهمية، والمنزلة الاجتماعية، والرمزية في ذلك العصر.

كانت لدى معظم الثقافات في مرحلة ما عادة الاحتفاظ بكميات كبيرة من الثروة مخزنة على شكل مجوهرات. تخزن العديد من الثقافات مهور حفلات الزفاف على شكل مجوهرات أو تصنع المجوهرات كوسيلة لتخزين أو عرض العملات المعدنية.

واستخدم البشر المجوهرات لعدد من الأسباب المختلفة، منها وظيفية لتثبيت الملابس أو الشعر في مكانه، أو كعلامة على الحالة الاجتماعية والحالة الشخصية، كما هو الحال مع خاتم الزواج، او كدلالة على شكل من أشكال الانتماء سواء كان عرقياً أم دينياً أم اجتماعياً، أو رمزاً لمعنى شخصي مثل الحب والوداد، أو الحداد، أو للزينة، أو للحظ كما في تعويذة الحماية أو الخرافات وابعاد الحسد كما في شكل التميمية البابلية الزرقاء.

والمجوهرات تُعد واحدة من أقدم أنواع القطع الأثرية المحفوظة وتختلف الأشكال الأساسية للمجوهرات إذ كان فن النقش يتمتع بتاريخ غني يعود إلى آلاف السنين، ويمكن إرجاع أقدم أشكال النقش على المجوهرات إلى حضارات السومريين، والمصريين، واليونانيين، والرومان. وفي هذه الحضارات القديمة، كان النقش على الأحجار الكريمة شكلاً من أشكال الفن الشعبي، وكانت النقوش تُصور الآلهة والإلهات والرموز الدينية الأخرى، واستخدمت أيضًا لتسجيل معلومات مهمة على الأختام التي غالبًا ما كانت مصنوعة من الأحجار الكريمة مثل اللازورد والعقيق.

غالباً ما يستخدم في صنع المجوهرات، الأحجار الكريمة، العملات المعدنية، أو غيرها من العناصر الثمينة ومجموعة واسعة من المواد مثل الكهرمان والمرجان واللازورد والعقيق والمعادن الثمينة والخرز والأصداف وفي كثير من الأحيان كانت المينا مهمة كذلك، ويتم وضعها أو دمجها في معادن ثمينة كالفضة والبلاتين وعادةً ما تكون الفضة المستخدمة في المجوهرات من الفضة الإسترليني، أو 92.5٪ من الفضة الخالصة، وتتراوح نسب سبيكة البلاتين من 900 (90٪ نقي) إلى 950 (95.0٪ نقاء)، و في المجوهرات المقلّدة، يتم استخدام معدن صلب مقاوم للصدأ أحياناً.

تتكون المجوهرات من عناصر زخرفية تُلبس لأغراض الزينة الشخصية، مثل البروش، الخواتم، والقلادات، والأقراط، أو السوار، أو زر الكم، أو مجوهرات معلّقة، ولعدة قرون، كان الذهب هو المادة الطبيعية للمجوهرات والمفضل للاستعمال في قيراط مختلف من 21 و18 و12 و9 أو حتى أقل ويتم احياناً دمجه مع معادن أخرى مثل النحاس والأحجار الكريمة والمواد الأخرى مثل الأصداف البحرية وغيرها. وتمتلك الأحجار الكريمة العتيقة هالة من التفرد، لأنها غالبًا ما تكون فريدة من نوعها أو محدودة الكمية.

مع مرور الوقت، استمر وشهد فن المجوهرات العديد من التطورات، التي نشأت في وقت مبكر وتطورت بشكل ملحوظ على مر السنين. في البداية، استخدم النقاشون نحت الأحجار الكريمة بمساعدة إبر فولاذية صلبة، ومع مرور الوقت، تم إدخال تقنيات مختلفة، وتم تطوير أدوات جديدة. على سبيل المثال، استخدام الإبر ذات الرؤوس الماسية شائعًا، مما مكن النقاشين من إنشاء تصميمات معقدة بدقة أكبر، وأحدث ظهور النقش بالليزر في القرن العشرين ثورة في صناعة المجوهرات، مما جعل من الممكن تحقيق تصميمات مفصلة ومعقدة للغاية. اليوم، يتم استخدام برنامج التصميم بمساعدة الحاسوب (الكومبيوتر) الحاسوب لإنشاء نماذج رقمية وتصميمات جميلة يمكن نقشها بدقة على المعادن الثمينة ومواد مختلفة.

واستعملت الجواهر والأحجار الكريمة والذهب والمعادن عبر التاريخ، کبطاريات طبيعية للتزويد بالطاقة، وكان رجال الطب القدماء يحملون معهم أكياساً من الأحجار الشافية التي كانت أحجاراً أرضية ذات طاقة قوية، فأحجار الكريستالين مثل الياقوت، الزفير، الزمرد، والترمالين والكوارتز كانت تستعمل كمولدات للجمال، الحب، الحكمة وعدد كبير من الصفات الأخرى.


الحضارات والمجوهرات

أظهرت الاكتشافات أن الإنسان قد لبس شكلاً من أشكال الحلي عبر تاريخه الطويل، وهي حقيقة إن دلت على شيء، فإنها تدل على رغبة عميقة متأصلة في النفس البشرية نحو التجمل والتزين وخاصة بين النساء، وهنا يستوي في ذلك الغني والفقير، الحضري والبدوي.

منذ بداية العصور الحجرية، كانت الحُلي تُتخذ من الأحجار والعظام والخرز، فمن عظام الحيوانات والطيور وفقار الأسماك صنع ما يشبه العقود والأساور والخواتم وذلك لوفرة هذه المواد وسهولة حفرها ونظمها واتخاذها كحلية، إذ كانت الأحجار تثقب بعد تنعيمها وقبل صقلها إما من جانب أو جانبين متقابلين، ثم تُنظّم على خيوط تصنع من ألياف النباتات أو شعر بعض الحيوانات.

واستخدمت الحضارات القديمة مثل السومرية والمصرية القديمة واليونانية ثم الرومانية المجوهرات بأنماط مختلفة ولأغراض مختلفة، وكان لها جميعاً تأثيرات وأدوار مهمة في صناعتها، على سبيل المثال، كان لدى السومريين مجموعة واسعة من قطع المجوهرات الذهبية التي لا تزال تُلبس حتى اليوم، مثل أغطية الرأس الذهبية والخواتم والأحزمة والقلائد الكبيرة.

كان الإغريق متعلقين بالمجوهرات، وقادهم شغفهم بالمجوهرات إلى تطوير مجوهراتهم باستمرار، وتأثرت المجوهرات اليونانية بالمجوهرات الشرقية، ولكن بعد فترة، تمكن اليونانيون من تطوير أنماطهم الفريدة الخاصة بهم التي تضمنت خواتم ودبابيس ومشابك الشعر وبروشات وتيجان وأساور.

أما بالنسبة للرومان، فكانت المجوهرات المهمة هي أساور المعصم وأعلى الذراع. وعرب الجاهلية كغيرهم من الأمم القديمة كانوا يرتدون الحلي المصنوعة من الذهب، والفضة، والزجاج، والعاج، واللؤلؤ، والجزع، وهو خرز يماني ذو خطوط سود وبيض، وكذلك الخشب، والحجارة، والأصداف البحرية


المجوهرات والأديان

يمكن أن ترمز المجوهرات إلى عضوية المجموعة الدينية (كما في حالة الصليب المسيحي) أو (نجمة داود اليهودية) او (الهلال كما في الإسلام) أو المكانة (كما في حالة السلسلة المكتبية)، أو خواتم الزفاف او الخطوبة، او ارتداء التمائم والميداليات التعبدية لتوفير الحماية أو درء الشر كما هو شائع في بعض الثقافات.

بعض الديانات لديها قواعد أو تقاليد محددة تتعلق بالمجوهرات (أو حتى تحظرها) والعديد من الأديان لديها مراسيم ضد العرض المفرط. فالإسلام مثلاً يعتبر لبس الرجال للذهب حرام. وغالبية المجوهرات الإسلامية كانت على شكل مهر للزفاف، ولم يتم تناقلها تقليديًا من جيل إلى جيل، وبدلاً من ذلك، عند وفاة امرأة، تم بيعها في السوق وإعادة تدويرها أو بيعها للمارة. وهكذا أصبحت المجوهرات الإسلامية التي تعود إلى ما قبل القرن التاسع عشر نادرة للغاية.

وتحظر بعض من الطوائف المسيحية استخدام المجوهرات من قبل الرجال والنساء على حد سواء، بما في ذلك كنائس الأميش-مينونايت وحركة القداسة. يعطي العهد الجديد من الكتاب المقدس أوامر بعدم ارتداء الذهب، في كتابات الرسولين بولس وبطرس، ويصف سفر الرؤيا "العاهرة الكبرى"، أو النظام الديني الكاذب، بأنه "مزين بالذهب والأحجار الكريمة واللؤلؤ، وفي يدها فنجان ذهبي " (رؤيا 17: 4).

 
صُنعت في بلاد ما بين النهرين

كانت بلاد ما بين النهرين، التي غالبًا ما يطلق عليها "مهد الحضارة"، واحدة من أقدم المراكز حيث ساعد تطور الفلسفة والدين والعلوم والتكنولوجيا البشرية على الانتقال من عصور ما قبل التاريخ إلى العصر الحديث. واليوم، لا يزال إرث بلاد ما بين النهرين ذا صلة، حيث شكل العديد من ابتكاراتها، وخاصة في الكتابة والقانون والثقافة، مسار التاريخ البشري.

إن أحد أكثر جوانب ثقافة بلاد ما بين النهرين ديمومة هو تقاليدها الغنية في صناعة المجوهرات، والتي ظهرت كوسيلة للناس للتعبير عن مكانتهم وقوتهم ومعتقداتهم الدينية، حيث تُوفّر مجوهرات بلاد ما بين النهرين رؤى قيمة حول المجتمع والثقافة وأسلوب حياة إحدى أقدم حضارات العالم.

قبل حوالي 5000 عام، كانت صناعة المجوهرات حرفة مهمة في مدن بلاد ما بين النهرين وتأتي أهم الأدلة الأثرية من استكشافات المقبرة الملكية في اور، حيث تم اكتشاف المئات من المدافن التي يرجع تاريخها إلى 2900-2300 قبل الميلاد. واحتوت المقابر  على عدد كبير من المصنوعات اليدوية المصنوعة من الذهب والفضة والأحجار الكريمة، مثل تيجان بوابي المجوهرة باللازورد المزينة وبتماثيل ذهبية، وقلائد ذات ياقة ضيقة، ودبابيس برأس مرصع بالجواهر.

في بلاد آشور، كان الرجال والنساء يرتدون كميات كبيرة من المجوهرات، بما في ذلك التميمية، وأساور الكاحل، وقلائد ثقيلة متعددة الطبقات، والختم الأسطواني.

تميل المجوهرات في بلاد ما بين النهرين إلى أن تكون مصنوعة من أوراق معدنية رقيقة ومرصعة بأعداد كبيرة من الأحجار ذات الألوان الزاهية (بشكل رئيسي العقيق، اللازورد، العقيق الأحمر، واليشب). اشتملت الأشكال المفضلة على الأوراق واللوالب والأقماع وعناقيد العنب. ابتكر الجواهريون أعمالًاً للاستخدام البشري وتزيين التماثيل والأصنام. لقد استخدموا مجموعة متنوعة من تقنيات الصياغة والأشغال المعدنية المعقدة.

كما تم اكتشاف سجلات واسعة النطاق ودقيقة تتعلق بتجارة المجوهرات وتصنيعها في جميع أنحاء المواقع الأثرية في بلاد ما بين النهرين. حيث تشير أحد السجلات في أرشيف مملكة ماري الواقعة في شمال غرب ميزوبوتاميا (العراق) والحدود السورية، صياغة وصناعة عناصر مختلفة من المجوهرات منها:

 اولاً - عقد من خرز العقيق الأبيض المرقط (بما في ذلك 34 خرزة من العقيق الأبيض المرقط، و35 خرزة من الذهب المخدد، في مجموعات من خمسة محتويات).

ثانيًا - عقد من خرز العقيق الأبيض المرقط (بما في ذلك 39 خرزة من العقيق الأبيض المرقط، مع 41 خرزة مخددة في المجموعة التي تشكل أداة التعليق).

ثالثاً - عقد من خرز اللازورد المستدير (بما في ذلك 28 خرزة مدورة من اللازورد، و29 خرزة مخددة للإبزيم). 


ولادة المجوهرات في أور السومريين

تبدأ قصة المجوهرات في بلاد ما بين النهرين مع السومريين، حوالي عام 3000 قبل الميلاد. ويُنسب إليهم اختراع المجوهرات وإدخال تقنيات متقدمة مثل التحبيب والزخرفة الدقيقة حوالي عام 2750 قبل الميلاد. ولم تُظهر هذه التقنيات حرفية استثنائية فحسب، بل أدت أيضًا إلى ظهور نمط من المجوهرات أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية. لم تكن المجوهرات في بلاد ما بين النهرين القديمة مقتصرة على النخبة الثرية؛ بل كان يرتديها الناس من جميع الطبقات - الرجال والنساء والأطفال على حد سواء.

واشتهر السومريون بشكل خاص بمساهماتهم في صناعة المجوهرات، حيث مهدوا الطريق للحضارات اللاحقة في بلاد ما بين النهرين مثل الأكاديين والبابليين والآشوريين. وكان لابتكاراتهم، سواء الجمالية أو التقنية، تأثير عميق على تطوير المجوهرات في جميع أنحاء العالمين القديم والحديث.


الصياغة والحرفية

ان تاريخ الصياغة وفن النقش وجوهرة الجواهر يمتد لآلاف السنين، حيث كان الصاغة يقومون بنقش الأحجار الكريمة والمجوهرات لإضفاء جمالية عليها وتزيينها، ومع مرور الوقت، تطورت تقنيات النقش وتعقيد التصاميم، وأصبح النقش على الجواهر فنًا متقدمًا وراقيًا.

واستخدم وعمل صاغة بلاد ما بين النهرين بمجموعة واسعة من المواد، بما في ذلك الذهب والفضة والنحاس والأحجار الكريمة المختلفة. وكان اللازورد، أحد أكثر المواد قيمة، ويستخدم غالبًا في القلائد والأساور وغيرها من العناصر الزخرفية. والجدير بالذكر أن اللازورد كان يُعتبر أكثر قيمة من الذهب في فترات معينة. وكانت الأحجار الكريمة، بما في ذلك العقيق واليشم والفيروز، تُستخرج من مناطق بعيدة مثل أفغانستان ووادي السند، مما يثبت تلاقح وتواصل الحضارات القديمة ويجعل المجوهرات سلعة تتجاوز حدود بلاد ما بين النهرين وكان لابد من استيراد اللازورد والفضة من خارج حدود البلاد.

فَضلّ صاغة الحضارات رفاهية الذهب وندرته وقابليته ومرونته للتشغيل على المعادن الأخرى. واستخدم القدماء الزجاج الملون مع الأحجار شبه الكريمة، وكان للون المجوهرات أهمية كبيرة فالأخضر، يرمز إلى الخصوبة والأزرق الى الماء والسماء.

كانت حرفية صائغي بلاد ما بين النهرين متقدمة للغاية، وكانت لديهم تقنية الزخرفة الدقيقة، حيث يتم لف خيوط معدنية دقيقة ولحامها على سطح الأحجار الثمينة طريقة شائعة. كما ومارس صاغة المجوهرات "الاندماج المفتوح"، حيث يُسكب المعدن المنصهر في قوالب حجرية لإنشاء تصميمات معقدة، وساهم انتشار هذه التقنيات واستيراد المواد الثمينة في تحفيز النمو الاقتصادي، مما أدى إلى نشوء شبكة تجارية مزدهرة.


تصاميم وتقنيات المجوهرات الأيقونية

كانت المجوهرات في بلاد ما بين النهرين كبيرة وكثيراً ما كانت مزخرفة للغاية، وكان الأثرياء يرتدون أقراطاً ذهبية ضخمة، وأحياناً كانت كبيرة الحجم لدرجة أنها كانت مصممة لتُعلّق فوق الأذن بدلاً من أن تتدلى. وكانت العناصر الزخرفية الشائعة تشمل أساور الكاحل، وخواتم الشعر، والقلادات، وخواتم الأختام، والتمائم. وكانت التقنيات المستخدمة في صناعة هذه العناصر متطورة للغاية، وكان استخدام المينا والنقش والتحبيب من بين العديد من الطرق لإنشاء تصميمات معقدة، وكثيراً ما كانت مرصعة بأحجار كريمة مثل الفيروز واللازورد والعقيق الأحمر. ومن أشهر أنواع الأحجار الكريمة في صنع المجوهرات، هي الكهرمان، الجمشت، الزمرد، اليشب أليشم، مرو، الياقوت. وتصنف بعض الأحجار الكريمة (مثل اللؤلؤ والمرجان والعنبر) على أنها عضوية، مما يعني أن كائنات حية تنتجها، والبعض الآخر غير عضوي، مما يعني أنها تتكون بشكل عام من معادن وتنشأ منها


المجوهرات كرمز ومكانة مجتمعية

لم تكن المجوهرات في بلاد ما بين النهرين مجرد شكل من أشكال الزينة، بل كانت أيضًا رمزًا قويًا للمكانة الاجتماعية. فقد كانت تمثل ثروة الفرد وقوته ومكانته الاجتماعية. وكان أفراد العائلة المالكة والكهنة والنبلاء يرتدون المجوهرات لإظهار مكانتهم النخبوية، في حين كان عامة الناس يرتدون قطعًا أبسط من ذلك.

ومن المثير للاهتمام أن المجوهرات أصبحت فيما بعد جزءًا من الحياة اليومية للجميع، على عكس عادات الحضارات القديمة حين كانت مخصصة للنخبة، وكان الرجال والنساء والأطفال يرتدون مجموعة متنوعة من المجوهرات، وغالبًا ما كان الرجال يرتدون الأساور والأقراط والقلائد وعصابات الرأس، بينما كانت النساء تزين أنفسهن بزخارف نباتية متقنة وأقراط كبيرة وأحزمة وقلادات، كما ارتدت النساء قطعاً ذهبية وفضية متقنة في الاحتفالات والمناسبات، وكان الأطفال يرتدون المجوهرات أيضًا، مما يشير إلى اندماجهم في الممارسات الثقافية لمجتمعهم وبيئتهم المحلية.


دور المجوهرات في حياة بلاد ما بين النهرين

لعبت المجوهرات العديد من الأدوار في مجتمع بلاد ما بين النهرين القديم، فلقد استُخدمت في الطقوس الدينية، وكقرابين للآلهة، وفي طقوس الدفن، حيث كان الأفراد يُدفنون غالبًا مع أغلى ممتلكاتهم، بما في ذلك المجوهرات، لضمان رحلة ناجحة إلى الحياة الآخرة. كما واستُخدمت المجوهرات كأداة في الدبلوماسية الملوكية والإدارية والثروة والمكانة، وغالبًا ما كانت تُتبادل كهدايا أو كجزء من المهور، وكانت المجوهرات في بلاد ما بين النهرين مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بعلم التنجيم والدين، إذ كان سكان بلاد ما بين النهرين يعتقدون أن الكواكب تتحكم في مصير الأفراد والمجتمعات، ونتيجة لذلك، ارتبطت بعض الأحجار الكريمة بكواكب محددة، مما وضع الأساس لمفهوم أحجار الميلاد.


المقابر الملكية في أور واكتشافات نمرود

تم اكتشاف بعض أهم المجوهرات الرافدينية في المقابر الملكية، وخاصة في أور ونمرود. إذ احتوت مقابر أور على أكثر من 1000 قطعة من المجوهرات، بما في ذلك القلائد الذهبية المعقدة، وقلادات اللازورد، والأقراط المصنوعة من العقيق، وقدمت هذه المقابر رؤى لا تقدر بثمن حول المجوهرات في ذلك الوقت والدور الذي لعبته في كل من الحياة اليومية والآخرة.

أسفرت استكشافات مقابر النمرود، التي يعود تاريخها إلى القرن الثامن قبل الميلاد، عن حوالي 1500 قطعة من المجوهرات، تزن حوالي 100 رطل، لتؤكد هذه الاكتشافات على أهمية المجوهرات ليس فقط كزينة شخصية، ولكن أيضًا كرمز للقوة والثروة والهوية الثقافية.

وكان السومريون روادًا في صناعة المجوهرات، حيث ابتكروا قطعًا عالية التفاصيل حددت معيار الحضارات المستقبلية. وبحلول الوقت الذي انتهت فيه حضارتهم حوالي عام 2000 قبل الميلاد، كانت مجوهراتهم تعتبر قديمة بالفعل. وقد انتقلت العديد من التقنيات والمواد التي استخدمها الصاغة السومريون إلى الثقافات اللاحقة، بما في ذلك البابليون، إذ كان البابليون، معروفين بثروتهم وبذخهم، ويفضلون المجوهرات الكبيرة المزخرفة مثل التيجان والخواتم والأقراط المعقدة، وارتدوا هذه القطع ليس فقط للزينة الشخصية، ولكن لترمز إلى مكانتهم الاجتماعية العالية أيضًا. وعلى عكس الحضارات الأخرى، لم تكن المجوهرات البابلية تُرتدى عادةً على الرقبة أو الصدر، ولكنها كانت تتميز بدلاً من ذلك بأختام أسطوانية مصنوعة من مواد مثل اليشب أو العقيق، والتي كانت تستخدم لتمييز الملكية ورموز السلطة عن عامة الناس.


الإرث الحضاري للمجوهرات الرافدينية

في بلاد ما بين النهرين القديمة، كانت المجوهرات أكثر من مجرد ملحقات زخرفية واكسسوارات، بل كانت رمزًا للثروة والقوة والتفاني الديني. ومن خلال تقنياتهم المتقدمة وتصميماتهم الرائعة، ابتكر السومريون وخلفاؤهم مجوهرات استمرت لآلاف السنين. ولا يزال إرث المجوهرات الرافدينية واضحًا حتى يومنا هذا، حيث تم الحفاظ على العديد من القطع القديمة من خلال ممارسات الدفن ومرور الوقت حينذاك، وتوفر هذه القطع الأثرية نافذة على ثقافة ومجتمع إحدى أقدم الحضارات في العالم، وبالإضافة إلى قيمتها الثقافية والجمالية، ساعدت المجوهرات الرافدينية في إرساء أسس تقنيات صناعة المجوهرات الحديثة، حيث يُنسب إلى السومريين، على وجه الخصوص، وضع الأساس للعديد من التقنيات التي استخدمها صُياغ المجوهرات عبر التاريخ.

وعلى الرغم من مرور القرون، لا تزال الأحجار الكريمة العتيقة تأسر النفوس بجمالها الخالد وتكمن الجاذبية الدائمة لهذه الكنوز العتيقة في قدرتها على تجاوز الاتجاهات والبدع، وتبقى أنيقة وذات صلة ويمكن ارتداء عقد من الزمرد واللؤلؤ، بحضوره وتصميمه الكلاسيكي، بنفس القدر من الأناقة والجاذبية اليوم كما كان عليه الحال منذ قرون. ويضمن هذا الخلود العهود وأن الجواهر والحلي العتيقة ليست مجرد أشياء مبهرة، ولكنها أيضًا أعمال فنية يمكن للأجيال توارثها وارتداؤها على مد الزمان. ومازالت المجوهرات الرافدينية تُلهم صائغي المجوهرات والعلماء المعاصرين، وتقدم لمحة عن عالم من الحرفية المتطورة والرمزية غير العادية والأهمية الثقافية ولا نزال اليوم مفتونين بهذه الكنوز القديمة، التي توفر نافذة على التاريخ الغني وثقافة واحدة من أقدم الحضارات البشرية التي سكنت بلاد ما بين النهرين (ميزوبوتاميا).

المصادر: ويكيبيديا، كل ما تعرفه عن بلاد ما بين النهرين/ نعمت-نجات، كارين ريا، الحياة اليومية في بلاد ما بين النهرين القديمة، لاله جواهري-ساتشي عبر مجموعة متحف متروبوليتان للفنون، مقالات د. كيم بينزيل، وجوليا فريدمان، وجيمي جو، وموقع سيدتي.