تلكيف بين الماضي والحاضر
على أطلال تل أثري ومحيطه، تقع مدينة تلكيف التي تستمد اسمها من هذا التل. يعود تاريخها إلى قرون عديدة قبل الميلاد، بدليل القطع الأثرية التي وجدها المنقبون في ذلك التل، الذي هو المقبرة الحالية. اسمها في اللغة الكلدانية “تل كيبي”، ويقابلها “تل الحجارة” باللغة العربية. كانت تسمى “شبيتيان.
تذكر المصادر أن تلكيف تعرضت عام 1508م للنهب على يد المغول، وفي عام 1562م اختفى اسم تلكيف وراء اسم “شبيتيان” في قائمة الخورنات. أما بعد هذا التاريخ، فإن اسم تلكيف يأتي بتواتر، خاصة في عشرات المخطوطات الكلدانية التي ترجع إلى عصور متأخرة، وقد تفرقت في عدة خزانات تشير إلى أنها كتبت في تلكيف، أو أن مؤلفها هو من أهاليها. وقد نُسخت هذه المخطوطات بين القرن السابع عشر وأوائل القرن العشرين، وأقدمها مؤرخ عام 1648م. وفي عام 1822، قال المنشئ البغدادي عن تلكيف إنها قرية تبلغ بيوتها ثلاثة آلاف بيت من المسيحيين الكلدان.
وللغوص في أبعاد عميقة لهذه المدينة ومعرفة تفاصيل أوفر وأدق، استضفنا أحد أبنائها، وهو السيد يحيى خضر تيلا، الذي له اهتمامات ثقافية وإلمامات في التاريخ. وقد زودنا بالكثير من المعلومات ضمن محاور هذا التحقيق الصحافي، الذي يعمد إلى تسليط الضوء على حقبات زمنية من تاريخ تلكيف والتركيز على محطات مهمة فيها.
يقول السيد يحيى: “كانت تلكيف قديماً قرية تابعة لولاية الموصل، يحكمها رئيس القرية مع المختارين، والمرجع كان والي الموصل. في العهد الملكي أصبحت مركزاً للناحية، وفي سنة 1970 ارتقت لتكون مركز قضاء، وأول قائمقام كان السيد سلام ميخا جميل. هذه المدينة هي مركز القضاء، وتبعد عن الموصل 15 كم باتجاه الشمال، وتتبع لها ثلاث نواحٍ هي القوش، ووانة، وفايدة”.
أحياؤها القديمة
رغم اتساع رقعة البناء فيها وزيادة حجم العمران في أحيائها، إلا أن الأزقة القديمة ما زالت تحتفظ بعبق أبناء البلدة وتاريخها العتيق، حيث البيوت القديمة المصممة على طرازٍ عمرانيٍ عريق، مرتبطةً تمامًا بأصالة أهلها قبل أن يطولها التغيير الديمغرافي، وتتلاشى منها ملامحها وسماتها المعهودة. فليس باستطاعة أبنائها وبناتها الذين عاشوا وترعرعوا فيها، رغم بعدهم عنها اليوم، أن يزيلوا من مخيلتهم أسماء الأحياء والمحلات التي تربوا فيها. فهي اثنا عشر محلةً، وجميعها تحمل أسماء عائلاتٍ أو عشائر، والتي هي تأكيدٍ لا تزال محفورةً في أذهان العديد ممن عاشوا فيها. فكل حجرٍ في بيوتها له وقعٌ مميزٌ لمن يحن إلى تراب آبائه وأجداده. ويقول ضيفنا السيد يحيى: “إن أسماء المحال هي على النحو الآتي: أسمر، يلدا، أورو، دخو، عبرو، كيزي، قاشات، سامونا، شعيوتا، شممامي، شنگو، ومارتشموني، التي كان اسمها سابقًا شوقا دبي عبّو”.
نجوم ساطعة
كان البعد التاريخي للمدينة والحضارة المسيحية المكتسبة منذ العهود الأولى لانبثاقها منهلين عذبين استقى منهما أبناء تلكيف شتى أسس العلوم والمعرفة، وهذا ما مكنهم أن يكونوا بارعين في مجالات حياتية مختلفة. فقد أنجبت تلكيف عبر تاريخها الحافل الكثير من الأسماء البارزة، منهم من خدم ويخدم في كرمة الرب من رجال دينٍ مسيحيين أجلاء، وكثيرٌ من أصحاب الفكر، والثقافة، والأدب، والفنون.
ويذكر ضيفنا أن أهم الشخصيات التي تسعفه ذاكرته بنقلها لنا هي التي سمع عنها أو يعرفها، والذين تخصصوا في مجالاتٍ عدة، منهم رجال الدين والمثقفون والشخصيات المجتمعية المؤثرة. ومن دون أدنى شك، الأسماء المذكورة ليست وحدها من اشتهرت وذاع صيتها، فهناك كثيرٌ منهم على مر السنين أسهموا في بناء المجتمع ورسم لوحاتٍ خلابةٍ في مناحٍ حياتية مختلفة.
كنسياً
البطريرك مار يوسف الثاني آل معروف
البطريرك مار عمانوئيل دلي
المطران باسليوس أسمر
المطران كوركيس گرمو
المطران إبراهيم إبراهيم
المطران سرهد جمو
المطران فرانك قلابات
المطران رمزي گرمو
المطران باسليوس يلدو
الأب لوسيان جميل
الأب يوسف بن جمال الدين
الشماس يوسف ميري
الصحافة
اسكندر آل معروف
مريم نرمي آل رومايا
يوسف مالك
يوسف هرمز جمو
الموسيقى
خضر الياس ثويني
ناظم نعيم آل سلمو
حكمت داود
رفائيل بابو إسحق - مؤرخ
ماريا تيريزا أسمر - كاتبة
شموئيل جميل - مؤلف.
الشعر
توماس تكتك
زريف عصار
حني نويثة
يلدا قلا
شوقي قونجا
الشخصيات الاجتماعية
حنا پاجور آل حمي ريس (لقب رئيس القرية)
يوسف عبرو ريس
يوسف سموكا آل حكيم ريس
جرجيس آل عكام
منصور هيلو
الكنائس والمزارات
في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، لجأت العديد من العائلات إلى تلكيف نتيجة سياسة التهجير التي اتبعها النظام السابق، حيث جُرّفت القرى الكردية والمسيحية على حد سواء في كردستان. وقد ساهم ذلك في زيادة عدد المسيحيين في المدينة، وبناءً عليه شُيّدت عدة كنائس تمثل الطوائف المسيحية المختلفة. تضم البلدة اليوم كنيسة المشرق الآشورية وكنيسة الشرقية القديمة، بالإضافة إلى الكنيسة الأم، الكنيسة الكلدانية. وتحتوي البلدة على ثلاث كنائس رئيسية: كنيسة قلب يسوع الكبرى، كنيسة مار بطرس وبولس، وكنيسة مريم العذراء، إضافة إلى كنيسة مزار مار يوسف.
المزارات الداخلية
• مزار مارت شموني وأولادها
• مزار مار يوحنا
• مزار بخت سهذا
المزارات الخارجية
• مزار مار دانيال ابن السيد
• مزار مارت شموني
• مزار عربيني
السوق
في ظل الحياة البسيطة والمتواضعة التي كانت سائدة في معظم المناطق الريفية، ومع قلة أو غياب أماكن الترفيه مثل المطاعم والمتنزهات وغيرها، التي تتوفر حالياً، كان السوق، ولعقود طويلة منذ بداية القرن الماضي وحتى الثمانينيات، وجهة يقصدها الناس ليس فقط للتبضّع، بل باعتباره متنفساً اجتماعياً وملتقى لتبادل الأحاديث واللقاءات وقضاء الوقت. وكانت تنتشر في أرجاء السوق بعض المقاهي المخصصة للرجال فقط.
ويذكر السيد يحيى أن سوق تلكيف كان يضم عدداً من الكازينوهات والچايخانات، مثل: عگوفلا، همّز، جوزيف يلدو، نوري عصار، صليو بگال.
ويضيف السيد يحيى أن موقع سوق تلكيف القديم كان في محلة “يلدا”، حيث ضم خان الكنيسة، وكانت دكاكينه تحتوي على معظم ما تحتاجه الأسرة آنذاك، إلى جانب وجود معظم أصحاب المهن، مثل النجار، والحداد، والقصاب، والحلاق، والإسكافي، والبزاز. وتميز السوق بصناعاته مثل صناعة الجلود والبارود. كما اشتهرت تلكيف ببعض الصناعات الغذائية، مثل الراشي (الطحينية) و” المونة” كالجريش، والحبية، والبرغل.
الزراعة وتربية المواشي
تتمتع تلكيف بموقع جغرافي خصب، جعل أهلها يتوجهون بحب وعناية نحو الزراعة، ليجعلوها شرياناً حياتياً يعتاش عليه الكثيرون منهم. وقد ازدهرت في أرضها زراعة الحنطة والشعير، وانتشرت فيها مساحات من البقوليات، كالحمص والعدس، وفي أوقات أخرى أبدعوا في زراعة البطيخ والترعوز. أما تربية المواشي، فقد كان لأهل تلكيف فيها شأن كبير، إذ أنشؤوا مزارع لتسمين العجول والأغنام، ممّا أثرى قطاع الثروة الحيوانية في البلدة.
والملفت أن أبناء تلكيف الكلدان ما زالوا يمتلكون حتى اليوم نسبة تصل إلى 70% من الأراضي الزراعية، والتي تبلغ مساحتها حوالي 25 ألف دونم، على الرغم من ندرة من تبقى منهم في البلدة. ورغم أن بعضاً من هذه الأراضي ذهب لإقامة مشاريع بموجب قرارات حكومية، وبِيع بعضها الآخر للقادمين إلى المدينة، إلا أن جذورهم بقيت راسخة في ترابها.
الانتشار في بلدان المهجر
دفعتهم عوامل دينية وسياسية واقتصادية إلى اتخاذ قرار الهجرة منذ أوائل القرن الماضي، فتركوا مدينتهم وقلوبهم تتطلع إلى وجهات بديلة داخل العراق وخارجه. فتوجه البعض إلى بغداد ومدن أخرى، بينما اختار القسم الأكبر منهم الرحيل إلى بلدان بعيدة، فاستقر كثيرون في ديترويت بولاية ميشيغان الأمريكية وبلدان أخرى، حيث شكلوا مجتمعات جديدة تحاكي موطنهم الأصلي.
ويروي السيد يحيى أن التقديرات تشير إلى أن عدد التلكيفيين اليوم يناهز 200 ألف نسمة، رغم غياب إحصائيات دقيقة، وذلك لتوزعهم في أرجاء العالم، حيث تقطن الغالبية العظمى منهم في الولايات المتحدة، وأيضاً في أوروبا وكندا وأستراليا.
وبرع التلكيفيون في أي أرض حلّوا بها، فبرزوا في عالم الأعمال والتجارة، تاركين بصمة واضحة جعلت الأنظار تتجه إليهم، حتى أن الأحياء التي يسكنونها باتت تُعرف بـ” تلكيف الجديدة”، تقديراً لنجاحهم اللافت وتفوقهم الملموس. واليوم، بات التلكيفيون رمزاً للقوة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ضمن الجالية الكلدانية في ميشيغان، يحافظون على إرثهم، ويواصلون كتابة قصصهم بتميز واعتزاز.
أحداث في الذاكرة
مرت تلكيف عبر تاريخها الطويل بأحداث درامية مؤثرة، فقد اجتاحها القائد الروماني زينفون حين كانت تُعرف، كما ذكرنا باسم “شبيتيان”، ومرّت عليها حملات طهماسب وميرا كور الراوندوزي والعثمانيين، ليشهد سكانها ما عانوه من ويلات تلك الحقبات، وكان أقساها فترة السفر برلك. وفي الأزمنة الحديثة، عانت المجاعة، وحادثة الطوفان عام 1949 التي غرق فيها طالبات من المدرسة الابتدائية، ثم جاءت بعدها ثورة الشواف وما تبعها من إعدامات، وكان من بين الضحايا مجموعة من أبناء تلكيف، والذين نفذ فيهم الإعدام أمام مركز الشرطة القديم. وبلغت المآسي ذروتها حين دخل تنظيم داعش المدينة، ما أدى إلى إفراغها تماماً من سكانها الأصليين.
وعندما يتحدث السيد يحيى عن هذه الأحداث، تبدو مظاهر الحزن واضحة على ملامحه وهو يروي كيف استباح الإرهاب الداعشي عقر داره في تلكيف، وكيف قضت هذه الهجمة البربرية على كل آمال بقائه في أرض الآباء والأجداد. فهو كان من المتشبثين بوطنه، الحالمين بغدٍ أفضل، لكن شدة الصدمة مما حلّ بهم أجبرته وأفراد عائلته على حزم أمتعتهم ومغادرة البلد، قاصدين ملاذاً آمناً، كما فعل الكثيرون من أبناء جلدته الذين اختاروا هذا السبيل.
عواصف عاتية ضربت أوتاد هذه المدينة واقتلعت جذور أهلها الطيبين، وبكل محنة مرت بها، نزحت عنها أرواح وذكريات من أبنائها نحو أصقاع الدنيا بحثاً عن وطن بديل.
واليوم، لم يتبق فيها سوى العشرات من أصحاب الأرض، فهل سيكون هؤلاء هم البذرة التي تثمر وتعطي؟ أم أن زوالاً نهائياً ينتظرها، ليبقى منها فقط قبور ساكنيها، شاهداً صامتاً على تاريخ مضى؟
كنيسة قلب يسوع الكُبرى في تلكيف