‎المُتنبي شاعر الشُعراء والعُلى والعَلياء

Al Mutanabbi

‎أنَا الذي نَظَرَ الأعْمَى إلى أدَبي - وَأسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُ

‎بقلم د عضيد ميري

‎ألعراق بلد الشعراء والادباء الكبار ومنهم ملك الضاد والشاعر العباسي العراقي الكوفي أبو الطّيب المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس، ومن سادة لغة الضاد. فالمتنبي هو شاعر العلى والعلياء، ورجل الحكمة ألعظيم والأدب النفيس والوصف ألبليغ وتكاد تكون ابياته معجم لكل الأمثلة والحكم العربية ولم يترك شي للفلاسفة ولا لشعراء العرب والأزمنة شيء يبتزون به عليه، في شعره كلمات قوية وفي صراحته قوة الشخصية ناهيك عن رقي أبيات شعره، عاش رحالا ويا أسفا قتلته حروف شعره وكبرياءه وشجاعته.

‎لم يحظَ شاعرٌ من شعراء العربيّة بمثل ما حظي به أبو الطيّب المتنبّي من مكانةٍ عالية، فقد كان أعجوبةً أعجزت الشعراء من بعده؛ حيثُ بقي شعره إلى الآن يُقرأ كمصدر وحي للكثير من الأدباء والشُّعراء، كما تُرى فيه مظاهر القوّة والشاعرية القائمتين على التجربة الصادقة والحس الرهيف، وقد أبدع المتنبّي في صياغة أبياته صياغةً تأسرُ الألباب وتشغل القلوب، فقد كان شاعراً ينتمي لطبقة شعراءِ المعاني، حيثُ كان موفِّقاً بين الشعر والحكمة، وقد أخرجَ الشّعر عن قيوده وحدوده وابتكرَ الطريقة الإبداعيّة فيه. وما زالت كلمات أبياته وبينّات حكمه فتية ليومنا هذا، فهو الذي نُظر البصير إلى أدبه، وأسَمعت كلماته من به صمم، وهو الذي نام ملئ جفونه والكل في شوارد قصائده يختصموا.

‎من هو المتنبي

‎أبو الطيب المتنبي واسمه أحمد بن الحسين الجعفي الكندي ولد في الكوفة في أوائل القرن العاشر في العراق عام 915م وجاء من بدايات متواضعة للغاية، إذ كان أبيه ساعي ماء من قبيلة كندة، وتعود قبيلة كندة إلى القرن الثاني قبل الميلاد، لم يكن يستقر في مكان واحد قط، فكان يسافر إلى بغداد ودمشق وطبريا وأنطاكية وحلب والقاهرة وغيرها، ويكسب دخلاً من الأمراء بسبب مدحه الشعري لهم.

‎يُعد المتنبي أعظم شعراء العرب وأعرب الشعراء العظماء وفارس الشعر العربي والبلاغة لكل زمان، والمتنبي شاعر يطير ويحلق في أجواء لا يصلها إلا ألمبدعين بأجنحة شعرية تعبيرية ولكلماته سحر سرمدي وأثر أبدي وكان مصورا بارعا للأحداث يرى ما لا يراه غيره وعندما تقرأ دواوينه تجده مبدعاً خلاّقا لا يساميه من الشعراء الحكماء أحد، فهو قيثارة الشعر ومحير الدهر وشاعر القصيدة العصماء ومثله لا يمكن ان يتكرر مرة اخرى ابدا ولا زال الجدال مستمر حول اشعاره وقصائده ليومنا هذا.

‎عُرف المتنبي بشخصيته القوية وما كان يكتنفها من غموض، وشعر المتنبي حيّر الناس، واستعصى عليهم فهم مقاصده، إذ قام بشرحه أفذاذ اللغة وعلماؤها، ومنهم عالم النحو الكبير ابن جنّي، والشاعر أبو علاء المعرّي، واللغويّ المعروف ابن سيّدة.

‎وهو من الشعراء الذين اكتسبوا أهميةً تجاوزت زمانهم ومكانهم، فلم يكن المتنبي مجردَ شاعرٍ يملك من الفصاحة والبلاغة ما لا يملكه غيره من الشعراء، بل كانَ ذا شخصيةٍ مميزة، يعتز بنفسه ويفخر بها في قصائده ومجالسه وأفضل من استخدموا اللغة العربية وأكثرهم تمكناً م بقواعدها وأعلمهم بمفرداتها، ولم يشغل الناس شاعر بالقدر الذي شغلهم ابو الطيب المتنبي حتى ان ابن رشيق القيرواني اورد في كتابه الشهير “ العمدة “ مقولته الشهيرة: “ جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس”.

‎المتنبي شاعر الشعراء الأول

‎ترك المتنبي وراءَه ثلاثمائة وستة وعشرون قصيدةً، وتعتبر هذه القصائد سجلّاً تاريخياً لأحداث عصره في القرن الرابع الهجريّ، تعتبر بمثابة سيرةً ذاتيةً للشاعر، حيث يستطيع القارئ من خلالها معرفة كيف جرت الحكمة على لسانه وكيف تطورت، لا سيّما في قصائده الأخيرة قبل موته.

‎عاش أفضل أيام حياته وأكثرها عطاء في بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب وكان من أعظم شعراء زمانه، وكان له مكانة سامية لم تتح مثلها لغيره من شعراء العربية وبقي شعره إلى اليوم مصدر إلهام ووحي للشعراء والأدباء وأحد مفاخر الأدب العربي. قلدّه كثيرون، ولكن لم يفلح من الشعراء أن ينافسه أحد.

‎لقب المتنبي

‎لُقِّب المتنبّي بهذا الّلقب لما وردَ عنه من ورعٍ في خُلقه، فقد كان آخذاً نفسه بالجدّ ومُنصرفاً للعلم مبتعداً عن الفواحش، وقد حظيَ بمنزلةٍ عظيمة عند عُلماء الأدب واللغة والنحو؛ أمثال الربعي وابن جني وأبي على الفارسي، وقد كان مُكثراً من ذِكر الأنبياء في شعره، مُشبِّها نفسه بهم، ومُقارناً أخلاقَ من يمدحهم بأخلاقهم، ومن ذلك قوله عن نفسه:

‎ مَا مُقامي بأرْضِ نَخْلَةَ إلاّ كمُقامِ المَسيحِ بَينَ اليَهُود أنَا في أُمّةٍ تَدارَكَهَا اللّـه غَريبٌ كصَالِحٍ في ثَمودِ

‎وأما لقبه المتنبي فقيل لأنه ادعى النبوة قبل أن يتوب، ولكنه أنكر ذلك وقال للعالم النحوي عثمان بن جني بأن لقب المتنبي معناه المرتفع، واشتقها من كلمة النبوة والتي تعني المرتفع من الأرض. ويروى عن المتنبي أنه قال: “ ابن جنّي، أعلم بشعري منّي “. ووردَ عن أبي علاءٍ المعرّي قوله في كتابه معجز أحمد أنّ المُتنبّي لُقّب بهذا اللقب نسبة إلى النَبْوَة، ومعناها المكانُ المرتفع؛ إشارةً لرفعة شِعره وعُلوّه لا إشارةً لادّعائه النبوّة.

‎بدايات حياة المتنبي

‎كانت حياة المتنبي زاخرة بالمحطات والمراحل التي صاغت تجربته الأدبية، والتحق المتنبي بكُتَّابٍ كان فيه أبناء أشراف العلويين لتلقّي علوم اللغة العربية من شعر، ونحو، وبلاغة، وكان إضافةً إلى ذلك يقضي معظم أوقاته ملازماً للورّاقين لكي يقرأ في كتبهم فاكتسب معظم علمه من ذلك.

‎اشتهر النبي أبو الطيب أحمد بن حسين المتنبي الكندي بموهبته الشعرية في سن مبكرة وكتب القصائد منذ أن كان في التاسعة من عمره. وعُرف عن المتنبي حبه الشديد للعلم والأدب، كما أنّه تمتع منذ صغره بالذكاءِ وقوة الحفظٍ، وقد أخبر أحد الرواة قصةً طريفةً عن قوة حفظه في صباه، وهي أنّ أحد الوراقين أخبر أنّ أحدهم جاء ليبيع كتاباً يحوي نحو ثلاثين صفحة. وكان المتنبي عنده حينها، فأخذ الكتاب من الرجل وصار يقلّب صفحاته ويطيل النظر فيها، فقال له الرجل: يا هذا لقد عطلتني عن بيعه، فإن كنت تبغي حفظه في هذه الفترة القصيرة فهذا بعيدٌ عليك، فقال المتنبي: فإن كنت حفظته فما لي عليك؟ قال الرجل: أعطيه لك، فقال الوراق: فأمسكت الكتاب أراجع صفحاته والمتنبي الصغير يتلو ما به حتى انتهى إلى آخره، ثم استلبه فجعله في كُمِّه ومضى لشأنه وكأن شياً لم يكن.

‎في عام 924 م، عندما طرد القرامطة جماعة الشيعة من الكوفة عام 924م، التحقت عائلة المتنبي بهم وعاشوا بين البدو، وتعلم المتنبي مذاهبهم ونصوصهم واتقن اللغة العربية ولإعجابهم به وبذكائه وبلاغته أخبر البدو المتنبي بأنه نبي. ويقال من هنا حصل على لقب المتنبي. لكن المتنبي لم يستغل مكانته بينهم لتحقيق مكاسب شخصية، ولكنه استخدم مكانته لقيادة ثورة في سوريا عام 932. وبعد أن سُجن لمدة عامين، قرر أن يصبح شاعرًا متنقلًا.

‎كان المتنبي ذكيًا للغاية، وبسبب شهرته وسمو مكانته كان يتعرض احياناً لحسد ونكد ومكائد الحساد، وكان الشاعر الوحيد الذي لا يلقي شعره واقفاً بين يدي سيف الدولة، مما أثار غيرة بقية شعراء البلاط نحوه فكادوا له المكائد. وفي مناسبة نادرة أراد شخص إحراج الشاعر، فشمت، وقال له: “لقد رأيتك من بعيد فظننتك امرأة”، فأجاب المتنبي بسرعة بديهته: “لقد رأيتك من بعيد” من بعيد فظننتك رجلاً.

‎حقائق شخصية عن المتنبي

‎قيل أنّ المتنبي تزوج بامرأة شامية ورُزق منها بولدٍ اسمه محسد توفي معه يوم قتله. كما هنالك قصة حبّ مزعومة ألبتت عليه بلاط سيف الدولة، وهي أنه كان يحب أخته خولة التي رثاها فيما بعد واصفاً مبسمها بالجميل.

‎يقال إنه لم ينافسه أحد من الشعراء في توليد المعاني والخيال والعمق في قول وتضمين الحِكمة في شعره، وفي روائعه الشعرية حكم تقلب الزمان بالإنسان والمرض والموت وما ينطوي عليه زوال المُلك وتناول موضوعات مثل الشجاعة وفلسفة الحياة ووصف المعارك وتأثر أسلوبه بالنّمط الكلاسيكي والبلاغة المتألقة، وتقديس أشعاره لدى القرّاء العرب يُشبه تقديس الغرب لأعمال شكسبير وتناولت حياته وأعماله دراسات متنوعة لكنّ قليل من الاهتمام أُولِيَ لجانبه الإنساني.

‎عاش المتنبي في زمان كان الشاعر يمتهن الشعر كما يُمتهن الفن يومنا هذا خصوصا وأن الشعر كان ديوان العرب، وأصبحت قصائده وابيات شعره أمثال وحكم وجزءا من مفردات اللغة العربية وقاموس العلم والادب مازلنا نرددها ونستشهد بها حتى دون الحاجة إلى ذكر اسم صاحبها وكل هذه الأشعار سارت مسرى الأمثال على ألسنة الناس، وهي إذ تتكرر فإن المتنبي شاعر لا يتكرر، وهل كمثل أقوال المتنبي حِكم؟

‎من أقوال المتنبي

‎أغايةُ الدينِ أن تَحفوا شواربكـم يا أمةً ضحكت من جهلِها الأممُ

‎لا يَسلَمُ الشرفُ الرفيعُ من الأذى - حتى يُراقَ على جوانبِهِ الدَّمُ

‎ذو العقلِ يشقى في النعيمِ بعقلهِ - وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ يَنْعَمُ

‎ومِن العداوةِ ما ينالُكَ نفعُهُ - ومِن الصداقةِ ما يَضُرُّ ويُؤْلِمُ

‎إذا أنت أكرمتَ الكريمَ ملكْتَهُ - وإن أنت أكرمتَ اللئيمَ تمرَّدا

‎فلا مجدَ في الدنيا لمن قلَّ مالُهُ - ولا مالَ في الدنيا لمن قلَّ مجدُهُ

‎ومِن نكدِ الدنيا على الْحُرِّ أن يرى - عدوًّا لهُ ما مِن صداقتهِ بدُّ

‎أعزُّ مكانٍ في الدُّنى سرْجُ سابِحٍ - وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ

‎وإذا لم يكن من الموت بد - فمن العجز أن تموت جبانا

‎إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومِ - فَلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ

‎فطَعْمُ المَوْتِ في أمْرٍ حَقِيرٍ - كطَعْمِ المَوْتِ في أمْرٍ عَظيمِ

‎ما كلُّ ما يتمناه المرءُ يدركُهُ – تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ

‎ ومن أبيات الفخر

‎كان المتنبي صاحب كبرياء وشجاعة وطموح ومحب للمغامرات، وكان في شعره يعتز بعروبته، ويفتخر بنفسه، وأفضل شعره في الحكمة وفلسفة الحياة ووصف المعارك، إذ جاء بصياغة قوية محكمة. وكان شاعرا مبدعا عملاقا غزير الإنتاج. يعد بحق مفخرة للأدب العربي، فهو القائل:

‎الخَيْـلُ وَاللّيْـلُ وَالبَيْـداءُ تَعرِفُنـي - وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَـمُ

‎ما أبعدَ العَيبَ والنّقصانَ منْ شَرَفِـي - أنَـا الثّرَيّـا وَذانِ الشّيـبُ وَالهَـرَمُ

‎لا بقومي شرفتُ، بل شرفوا بي - وبنفسي فخرتُ لا بجدودي

‎وما الدهرُ إلا من رواةِ قصائدي - إذا قلت شِعرًا أصبح الدهرُ مُنشدا

‎أنا تِربُ الندى وربُّ القوافي - وسِمامُ العِدَى وغيظُ الحسودِ

‎وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ - فهي الشهادةُ لي بأني كاملُ

‎وفؤادي من الملوكِ وإن كـان - لساني يُرى من الشعراءِ

‎وفي إعتزاز المتنبي بالعروبة

‎من أبيات الاعتزاز بالعروبة والوطن وفيها معاني تنطبق على العراق المُحتل في عصرنا هذا قوله:

‎وَإِنَّما الناسُ بِالمُلوكِ - وَما تُفلِحُ عُربٌ مُلوكُها عَجَمُ

‎لا أَدَبٌ عِندَهُم وَلا حَسَبٌ - وَلا عُهودٌ لَهُم وَلا ذِمَمُ

‎بِكُلِّ أَرضٍ وطئتها أُمَمٌ - ترعى لِعَبدٍ كَأَنَّها غَنَمُ

‎من طيبات أبا الطيّب المتنبي

‎أبلِغ عَزيزًا في ثنايا القلبِ مَنزله - أنى وإن كُنتُ لا ألقاهُ ألقاهُ

‎وإن طرفي موصولٌ برؤيتهِ - وإن تباعد عَن سُكناي سُكناهُ

‎يا ليته يعلمُ أني لستُ أذكرهُ - وكيف أذكرهُ إذ لستُ أنساهُ

‎يا مَن توَّهم أني لستُ أذكرهُ - واللهُ يعلم أني لستُ أنساهُ

‎إن غابَ عني فالروحُ مَسكنهُ - مَن يسكنُ الروح كيف القلبُ ينساهُ

‎وبعض من أجمل أبيات العشق

‎أرَقٌ عَلى أرَقٍ وَمِثْلي يَأرَقُ - وَجَوًى يَزيدُ وَعَبْرَةٌ تَتَرَقْرَقُ

‎جُهْدُ الصّبابَةِ أنْ تكونَ كما أُرَى - عَينٌ مُسَهَّدَةٌ وقَلْبٌ يَخْفِقُ

‎مَا لاحَ بَرْقٌ أوْ تَرَنّمَ طائِرٌ - إلاّ انْثَنَيْتُ وَلي فُؤادٌ شَيّقُ

‎جَرّبْتُ مِنْ نَارِ الهَوَى ما تَنطَفي - نَارُ الغَضَا وَتَكِلُّ عَمّا يُحْرِقُ

‎وَعَذَلْتُ أهْلَ العِشْقِ حتى ذُقْتُهُ - فعجبتُ كيفَ يَموتُ مَن لا يَعشَقُ

‎وما كنت ممن يدخل العشق قلبه - ولكن من يبصر جفونك يعشق

‎المتنبي يمدح سيف الدولة الحمداني

‎في سن الثالثة والثلاثين، عاش المتنبي أجمل أيامه في حلب حيث كان حاكمها سيف الدولة الحمداني يهتم بالشعر والأدب ويحمي الثغور من الروم. وفي هذه الفترة كتب المتنبي إحدى أشهر قصائده واشتهر عنه تقلبه في علاقته مع الحكام، فكان يمدح حاكم حلب سيف الدولة الحمداني ثم يهجوه، وكان يمدح حاكم مصر أبو المسك كافور ثم يهجوه. وخلال تلك الفترة مدح سيف الدولة في قصيدة طويلة عصماء مطلعها:

‎عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ - وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ

‎وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها - وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ

‎يُكَلِّفُ سَيفُ الدَولَةِ الجَيشَ هَمَّهُ - وَقَد عَجَزَت عَنهُ الجُيوشُ الخَضارِمُ

‎المتنبي يعاتب سيف الدولة الحمداني

‎وفي قصيدة يختلط فيه مدح وذم وعتاب، مدح سيف الدولة بأنه أعدل الناس، ولكن الذم والعتاب هو أن هذا العدل لا يشمل الشاعر، فيقول لسيف الدولة: “أنت أعدل الناس إلا إذا عاملتني، فقد حدث خصام بيننا، وأنا لا أستطيع أن أحاكمك لغيرك لأنك ملك، حينها تكون أنت الخصم وأنت الحكم بيننا، فأين العدل إذًا؟

‎يا أعدَلَ النّاسِ إلاّ في مُعامَلَتي - فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ

‎أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صادِقَةً - أن تحسَبَ الشّحمَ فيمن شحمهُ وَرَمُ

‎وَمَا انْتِفَاعُ أخي الدّنْيَا بِنَاظِرِهِ - إذا اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الأنْوارُ وَالظُّلَمُ

‎سَيعْلَمُ الجَمعُ ممّنْ ضَمّ مَجلِسُنا - بأنّني خَيرُ مَنْ تَسْعَى بهِ قَدَمُ

‎أنَا الذي نَظَرَ الأعْمَى إلى أدَبي - وَأسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُ

‎أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا - وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ

‎وَجاهِلٍ مَدّهُ في جَهْلِهِ ضَحِكي - حَتى أتَتْه يَدٌ فَرّاسَةٌ وَفَمُ

‎إذا رَأيْتَ نُيُوبَ اللّيْثِ بارِزَةً - فَلا تَظُنّنّ أنّ اللّيْثَ يَبْتَسِمُ

‎وَمُهْجَةٍ مُهْجَتي من هَمّ صَاحِبها - أدرَكْتُهَا بجَوَادٍ ظَهْرُه حَرَمُ

‎رِجلاهُ في الرّكضِ رِجلٌ وَاليدانِ يَدٌ - وَفِعْلُهُ مَا تُريدُ الكَفُّ وَالقَدَمُ

‎وَمُرْهَفٍ سرْتُ بينَ الجَحْفَلَينِ بهِ - حتى ضرَبْتُ وَمَوْجُ المَوْتِ يَلْتَطِمُ

‎المتنبي يهجو سيف الدولة الحمداني

‎تحولت علاقة المتنبي مع سيف الدولة إلى عداء فقيل إن السبب هو تعرض المتنبي للإهانة في أحد مجالس سيف الدولة، وقيل لأن سيف الدولة رفض أن يتزوج المتنبي من أخته، فهجاه المتنبي بعد رحيله إلى مصر قائلا:

‎فِراقٌ وَمَن فارَقته غَيرُ مُذَمَّمِ - وَأَمٌّ وَمَن يَمَّمتُ خَيرُ مُيَمَّمِ

‎إِذا ساءَ فِعلُ المَرءِ ساءَت ظُنونُهُ - وَصَدَّقَ ما يَعتادُهُ مِن تَوَهُّمِ

‎وَعادى مُحِبّيهِ بِقَولِ عُداتِهِ - وَأَصبَحَ في لَيلٍ مِنَ الشَكِّ مُظلِمِ

‎أُصادِقُ نَفسَ المَرءِ مِن قَبلِ جِسمِهِ - وَأَعرِفُها في فِعلِهِ وَالتَكَلُّمِ

‎وَأَحلُمُ عَن خِلّي وَأَعلَمُ أَنَّهُ مَتى أَجزِهِ - حِلمًا عَلى الجَهلِ يَندَمِ

‎وَإِن بَذَل الإِنسانُ لي جودَ عابِسٍ - جَزَيتُ بِجودِ التارِكِ المُتَبَسِّمِ

‎وَما كُلُّ هاوٍ لِلجَميلِ بِفاعِلٍ - وَلا كُلُّ فَعّالٍ لَهُ بِمُتَمِّمِ

‎رحلة المتنبي إلى مصر ولقائه

‎ بكافور الإخشيدي

‎غادر أبو الطيب حلب وهو كاره لذلك، إذ كانت هناك فترة في حياته مليئة بالمؤامرات والغيرة التي بلغت ذروتها وأجبرت المتنبي على ترك سوريا في عام 957 فاتّجه في البداية إلى دمشق، ثم شاءت الأقدار أن يذهب إلى مصر حيث استدعاه شخص أثيوبي يُدعى أبو المسك كافور وُلِد عبدًا. كافور الإخشيدي كان يحكم مصر، وحين وصل المتنبي إلى مصر كان مجروح الفؤاد، مكسور الخاطر، فأقام إلى جوار كافور خمس سنواتٍ مدحه خلالها بعدة قصائد ليس حباً وإعجاباً، إنما أملاً في تحقيق ما كان يصبو إليه من رفعة وعُلّو شأن، وكان كافور يعرف ذلك جيداً ويعرف أنّ المتنبي لم يَكنْ يُضمر له المحبة والود، فخلى به ولم يحقق له شيئاً من أمانيه، بل ضيّق عليه وعاداهُ، وزاده فوق همّه همّاً، فكَره الشاعر الإقامة في مصر، وبعد أنّ مدح كافور عاد وهجاه، وقد سميت قصائده في مدح كافور وهجائه في تلك الفترة بالكافوريّات.

‎المتنبي يمدح كافور

‎وبعد أن أتى المتنبي إلى مصر واستقبله حاكمها كافور الإخشيدي مدح المتنبي كافور قائلا:

‎وما طرَبي لمَّا رأيتُكَ بِدعةً - لقد كُنتُ أرجو أنْ أراكَ فأطربُ

‎وتعذلُني فيكَ القوافي وهِمَّتي - كأني بمدحٍ قبل مدحِكَ مُذنِبُ

‎ولكنَّهُ طالَ الطَّريقُ ولم أزَل - أُفَتَّشُ عن هذا الكلامِ ويُنهَبُ

‎يُدَبِّرُ المُلْكَ من مصرٍ إلى عدَنٍ - إلى العراقِ فأرضِ الرُّومِ فالنُّوبِ

‎المتنبي يهجو كافور

‎وعندما لم يلقَ المتنبي من كافور الإخشيدي ما كان يطمح له من مناصب وعطايا، نظّم به قصيدة هِجاءٍ ارتكزَ فيها على أصول الإخشيدي الحبشية، حيثُ كان حبشيًا من الرقّ والعبيد قبل وصوله للحكم، يتّصف ببشرة سمراء وشفاه وقدمين متشقّقتين. وأساء إلى كافور بتصويره بشكلٍ ساخر، لذا هرب المتنبي من مصر حوالي 960م. قام بعدها بعدة رحلاتٍ أخرى، بما في ذلك بغداد ويعتبر هجاء المتنبي لكافور من أشهر ما قيل في الهجاء حيث عايره بأنه خصي وعبد وبلون بشرته الأسود، وقيل بعد هذه القصيدة لو قام كافور بإعطاء المتنبي حُكم مصر بأسرها وليس فقط منصب لكان أفضل لكافور بدلا من هذه القصيدة التي أساءت له وخلدت هذه الإساءة، ومن أبيات المتنبي في هجاء كافور الإخشيدي:

‎لا تَشتَرِ العَبدَ إِلّا وَالعَصا مَعَهُ - إِنَّ العَبيدَ لَأَنجاسٌ مَناكيدُ

‎ما كُنتُ أَحسَبُني أبقى إِلى زَمَنٍ - يُسيءُ بي فيهِ كَلبٌ وَهوَ مَحمودُ

‎وَأَنَّ ذا الأَسوَدَ المَثقوبَ مِشفَرُهُ - تُطيعُهُ ذي العَضاريطُ الرَعاديدُ

‎جَوعانُ يَأكُلُ مِن زادي وَيُمسِكُني - لِكَي يُقالَ عَظيمُ القَدرِ مَقصودُ

‎مَن عَلَّمَ الأَسوَدَ المَخصِيَّ مَكرُمَةً - أَقَومُهُ البيضُ أَم آبائُهُ الصيدُ

‎أَم أُذنُهُ في يَدِ النَخّاسِ دامِيَةً - أَم قَدرُهُ وَهوَ بِالفَلسَينِ مَردودُ

‎أَولى اللِئامِ كُوَيفيرٌ بِمَعذِرَةٍ - في كُلِّ لُؤمٍ وَبَعضُ العُذرِ تَفنيدُ

‎وَذاكَ أَنَّ الفُحولَ البيضَ عاجِزَةٌ - عَنِ الجَميلِ فَكَيفَ الخِصيَةُ السودُ

‎رحلة المتنبي للقاء عضد الدولة وابن العميد

‎ وقد كان لمحنة المتنبي ومعاناته أثناء وجوده في مصر أكبر الأثر في شعره، حيث كان مختلفاً عن كل شعره السابق، إذ اتّسم شعره في تلك السنوات بمهارات عديدةٍ، وقد وضع فيه خلاصة تجارب حياته كلّها.

‎توجّه المتنبي إلى العراق بعد خيبة أمله عند كافور حيث كان يتنقل بين الكوفة وبغداد، ثم توجه إلى أرجان قاصداً أبي الفضل ابن العميد وزير عضد الدولة، فمكث عنده فترةً من الزمن مدحه فيها بمجموعةٍ من القصائد سميت بالعميديات، وأثناء وجوده في أرجان أرسل عضد الدولة بن بوّيه يدعوه للقدوم إليه، فلّبى المتنبي الدعوة، ووجد عند السلّطان الحفاوة والتكريم، فعادت للشاعر حريّته التي افتقدها في مصر، وملكته الشعرية وآماله وطموحاته، ومكث في ضيافة عضد الدولة ثلاثة أشهرٍ مدحه خلالها في ست قصائد غاية في الروعةِ سميت بالعضديات،

‎لكن المتنبي رغب بالرحيل والعودة إلى العراق لسببٍ غير معروف، وعلى إثر ذلك ودّع ابن بوية بالقصيدة التي استهلها قائلا: فِدًى لكَ مَن يُقَصّرُ عَن مَداكا فَلا مَلِكٌ إذَنْ إلاّ فَدَاكَا.

‎ولكنه لم يتمكن من تأمين الحماية لنفسه، حيث كانت بغداد في خطر بسبب حملات القرامطة المتعددة عليها، ما اضطُر المتنبي أن يستقر في مدينة شيراز بإيران تحت حماية أمير الدولة من أسرة بئيد حتى عام 965 عندما عاد إلى العراق وقتل بالقرب من النعمانية في محافظة واسط/الكوت.

‎مقتله

‎عرف عن المتنبي إتقان المدح وهجاء نفس الشخص، وكان شعرهُ السبب الرئيسيّ بوفاته وقيل قتلته قصيدتان له فيهما هجاءٌ وفخر. كان المتنبي قد هجا قاطع طرق يدعى ضبة بن يزيد الأسدي العيني بقصيدة شديدة الهجاء شنيعة الألفاظ وتحتوي على الكثير من الطعن في الشرف والقصيدة معروفة ومشهورة ومطلعها:

‎مَا أنصَفَ القَومُ ضبّة وَأمهُ الطرْطبّة - وإنّما قلتُ ما قُلــتُ رَحمَة لا مَحَبة

‎وعندما علم فاتك بن أبي الجهل الأسدي (خال ضبة) بالقصيدة غضب عند سماعها أراد الانتقام لأخته وابنها ضبة فاعترض سبيل أبي الطيب وهو في طريقه إلى بغداد فالكوفة وواجهه بنحو 30 من رجاله وقيل أكثر، فقاتله المتنبي حتى قتل هو وابنه محسد وعدد ممن كانوا معه.

‎وقد قيل إن أبا الطيب لما رأى كثرة رجال فاتك وأحس بالغلبة لهم أراد الفرار فقال له غُلام له: لا يتحدث الناس عنك بالفرار وتهرب وأنت القائل: فالخيلُ والليلُ والبيـداءُ تعرفنـي - والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ

‎فرد عليه المتنبي بقوله: قتلتني قتلك الله، وعاد المتنبي الى سلوك درب الموت راجعاً وكان مقتله بسبب هذا البيت في تاريخ 25 رمضان 354 هجري الموافق 965/09/24م، وقُتل معه ابنه محسد وغلامه مُفلح بالنعمانية بالقرب من دير العاقول جنوب غرب بغداد.

‎قبر المتنبي (أبو سورة)

‎يوجد قبر المتنبي شمال مفرق النعمانية ب3 كم في محافظة واسط، بُنيَ لأول مرة من الطين في الثلاثينيات من القرن الماضي على يد حمودي الشكور (من وجهاء المنطقة)، ثم في نهاية الاربعينيات جاءت لجان دولية معنية بتحليل بقايا الجثمان للتأكد من انه يعود للشاعر ابو الطيّب المتنبي؛ وتم التأكد من ذلك.

‎كان قبرَ المتنبي سابقاً محاطاً بالكثير من قبور الاطفال، ظناً من الناس انهُ إمامٌ ما وتبركاً بهِ قاموا يدفنون اطفالهم بقربه، ثم تمّت إزاحة المقبرة في مطلع التسعينات وشُيّدَ البناء الحالي في الوقت نفسه، وهناك تشابها معمارياً بينه وبين الأبنية الاثرية الاخرى التي بُنيَتْ في عهد النظام السابق.

‎اهل واسط القدامى ينادون المتنبي ب (ابو سَورة) لأن مياه فيضان دجلة التي اغرقت اغلب مناطق واسط في خمسينيات القرن الماضي صارت تطوف حول القبر ولم تصل اليه، ويعتبرون ذلك من كرامات المتنبي ولهذا أصبحوا يدفنون اطفالهم بالقرب منه بعد الفيضان.

‎جاء أبا ألطيب المتنبي ورحل ولن يعود مثيله وكم أتمنى أن يرجع ألزمن قرونا وأقضي يوما في مجلس ديوانه لأستمع لأشعاره أو أسير ظلا ظليلا جنب ركبانيات خطواته فهو عندي واحد من أصدقاء الفِكر العشرة ومن المستحيل أن تحوي مقالة كهذه كل قصائده وأمثاله وتطوي حكمه وطيبّاته.

‎هذه بإيجاز كانت قصة الشاعر العظيم أبي الطيب المتنبي كما جاءت في كتب مقالات الكتاب والأدب والاشعار والى موعد مع شاعر اخر وقصائد أخرى.

‎المصادر: المؤرخ تامر الزغاري، تاريخ بغداد- الخطيب البغدادي، المتنبي- محمود شاكر شرح ديوان المتنبي- علي بن أحمد الواحدي، أبو الطيب المتنبي في مصر والعراق- مصطفى الشكعة، نقوس المهدي/ المغرب، الكاتب علي جاسم.