المسيحيون العراقيون – إسهامات وذكريات جيل الرواد
بقلم د عضيد ميري
العراق بلد التنوع الديني والمذهبي، فيه عاشت أقدم الديانات، وعلى أرضه وجدت مختلف الجماعات الدينية والإثنية والمكونات التي تشكلت وعاشت فيه منذ القدم وعاشت فيه، وبعضها أصيل تعود جذوره لحضارات وادي الرافدين، لكنها سوية شكلت الدولة العراقية الحديثة.
المقالة هذه هي مختصر لمقالتين تتعلق بهذا الموضوع أولهما نُشرت في عدد شهر ايار 2023 والثانية في صفحات هذا العدد من مجلة كالديان نيوز باللغة الإنكليزية، تناولنا فيهما معالم ومساهمات أجيال من المسيحيين الذين سجلوا وتركوا بصمات خالدة في دواوين التنوير والتمييز في المجالات المدنية والثقافية والحضارية وأصبحوا مدعاة فخر لوطنهم ومجتمعهم ومحل اعتزاز العراق وأبناءه ومكوناته.
لقد سبقنا وكتب مجموعة من الكتاب والأكاديميين والمؤرخين المرموقين مثل د. سيار الجميل وسعد سلوم وسرور ميرزا محمود و د. فيصل غازي مجهول وكريم عبد الحسين العزاوي وغيرهم من المهتمين بشؤون المكونات عن هذا الموضوع بإسهاب وإنصاف واقتبسنا منهم معلومات قيمة في اعداد هذه المقالة عن المسيحيين العراقيين وأدوارهم الإيجابية مع إخوتهم المسلمين والمندائيين في وطنهم العراق الذي تنوّعت فيه الأديان والسكان وتعددت ألوان المكونات وتجانس فيه الناس وتناغمت عاداتهم وتقاليدهم، وانسجمت حياتهم وشراكة عيشهم وانصهر بينهم وجودهم التاريخي الطويل.
لقد دافع الكتاب التنويريين عن حقوق العراقيين بمختلف تراكيبهم واطيافهم واعراقهم واديانهم ونشروا موضوعات ودراسات وآراء في محاولة لدعم الحريات وشاركهم عدد كبير من أبرز كتّاب الرأي في تسليط الضوء على انتهاك الحريات في العراق وقدموا الأراء عن اهمية المساواة والعدالة الاجتماعية وإعلاء مفاهيم الشراكة والتعايش السلمي بين المواطنين من اجل استعادة ازدهار العراق وناسه الطيبين.
وهؤلاء الكتاب المسلمين المُنصفين هبوا وكتبوا دفاعاً عن اخوتهم في الكتاب والوطن ليس لأن المسيحيين العراقيين هم اقلية في مجتمع مسلم، بل لأن هذه الأقلية (المكون الأصيل) كان لها ادوارها الحضارية فضلا عن الادوار النهضوية والوطنية على امتداد عقود كثيرة ناهيكم عن ثقلهم ووجودهم ومؤسساتهم وأديرتهم وكنائسهم ومطرانياتهم خصوصا في الموصل وسهل نينوى منذ قرابة الفي سنة ويشهد بذلك الكنائس، والأديرة، والمدارس الشاخصة، والمندثرة والمبعثرة في ارض الرافدين.
وثبت الأكاديميون وبالأرقام كم نالت الأقليات من التهميش والتعتيم والاقصاء وتبعات هذا الفشل الحضاري والتغيير الديموغرافي ومأساة تحول المجتمعات الحيوية المتأخية الى عقول مُقيدّة وأيديولوجيات متخلفة جعلت المسيحي في وطنه مواطناً من الدرجة العاشرة ومطلقة بذلك هجرة محلية مفزعة من كافة المدن الى سهل نينوى وشمال العراق وهجرة بعيدة الى بلاد الغرب والمنافي التي أصبحت أوطانا بديلة بعيدة وهجرة بلا عودة للغالبية منهم.
وفي ضمن هذا المجال لا بد ان نقف على جملة من الحقائق المهمة والبصمات التأريخية التي تكاد تكون مخفية لا فقط عن القراء الأجانب، بل حتى عن العراقيين أنفسهم بأن المسيحيين هم عراقيين أصلاء ولم يأتوا من خارج الفضاء، ولو تتبعنا خطى الأثار وعطر التأريخ سنجد انهم أبناء أرض العراق المباركة ويقيمون فيه جنوبا ووسطا وشمالا منذ الفي عام وكنائسهم منتشرة بين نهريه وأديرتهم كانت ومازالت مزروعة قرب الأنهار في مناطق بغداد والكوفة والموصل وكان مركز رئاستهم التأريخية سابقا في المدائن (سلمان باك حالياً) وعند تأسيس بغداد عام 762 ميلادية نقل اليها ولا يزال هناك.
إن هذه المقالة هي بذرة صغيرة في ارض وبستان علماء العراق جمعنا فيها نموذج من فسائل ونخيل بلاد الرافدين تثميناً لما قدموه من خدمات الى وطنهم وكيف ساهموا بفعالية في نهضة البلاد خلال القرن الماضي ونحن لا نملك إحصائية كاملة بجميع الأسماء، لكن أرقامهم تشكل وزنا واضحا ونعتذر لعدم ذِكر المئات الأخرين من أصحاب الكفاءات الذين يفتخر بهم العراق وبينهم وزراء وقضاة وشعراء وأدباء وأطباء وصيادلة ومحامين وعسكريين ومدرسين ومؤرخين وآثاريين وموسيقيين وصحفيين وإعلاميين وسياسيين ومهندسين وجيولوجيين وصناعيين وغيرهم من الذين كان لهم تأثير بالغ الأهمية في مجالات التعليم والطب والأدب والفن والرياضة وكافة أركان الحياة العراقية الحديثة. وسننقل ادناهً بعضاً من ثمين ما صنعته ايادي وعقول هؤلاء الرواد وما قدموه لوطنهم العراق وللاستزادة في الاطلاع ومعرفة الأسماء يرجى مطالعة مقالات الكتاب المتميزين الواردة اسماهم ضمن هذه المقالة.
علماء النهضة
هناك المئات من مشاهير العراقيين ومن كافة المكونات والقوميات والملل تشكلت على أيديهم هندسة وبناء الأجيال الجديدة، واتسموا جميعا بالمقدرة والرغبة في التربية والتعليم سواء داخل العراق أو خارجه مثل علماء الثقافة واللغة والدين والتاريخ وتفوق العديد من المسيحيين العراقيين في تخصصات مهمة نذكر منهم: أنستاس ماري الكرملي، الأب لويس مرمرجي، الأب سليمان الصايغ ، الأب يوسف حبي، يوسف هرمز جمو، الشماس يوسف منصور ميري، ، المحامي جرجيس فتح الله، المؤرخون جرجيس وشقيقه ميخائيل عوض ، بطرس حداد والشاعر المحامي الفريد سمعان وجرجيس حنا عواد وفرج بصمجي: أستاذ وآثاري ويوسف يعقوب مسكوني: مؤرخ وباحث كلداني وأساتذة الموسيقى: منير بشير، جميل بشير، حنا بطرس، سعيد شابو، ناظم نعيم، جميل جرجيس وآخرون غيرهم، منهم عالم الآثار البارز فؤاد سفر مدير عام آثار بغداد (1960 – 1978) مؤرخ ومدير المكتبة، واخترنا تسليط الأضواء على أربعة من العلماء النهضويين، ونقف قليلا عند سيرتهم ليعرفهم أبناءنا وأحفادنا ويفتخروا بما قدموه وأنجزوه.
الأب أنستاس ماري الكرملي – رائد الصحافة العراقية وحارس لغة الضاد (1866-1947)
بطرس جبرائيل يوسف عواد والمعروف بالأب أنستاس ماري الكرملي رجل دين مسيحي، ولغوي عربي، عراقي من أب لبناني وأم عراقية بغدادية فأبوه جبرائيل يوسف عواد من إحدى قرى لبنان، قدم الى بغداد سنة 1850م وأقام بها، وفي بغداد تعرّف على مريم مرغريتا او (لؤلؤه) من بيت اوغسطين جبران البغدادي، وامها (مرتا) ابنة رحماني الكلداني البغدادي، فتزوجها وله منها خمسة بنين واربع بنات، وبطرس كان الأبن الرابع من ابناء جبرائيل وعرف بعد ذلك باسم أنستاس ماري الكرملي، حيث ولد ونشأ في بغداد عام 1866م وتلقى تعليمه الابتدائي فيها بمدرسة الآباء الكرمليين.
تميزت بغداد أيام الكرملي في اربعينيات القرن الماضي بمجالسها الادبية، ولكن مجلس يوم الجمعة للاب انستاس كان في طليعة هذه المجالس. إذ كان يعقد للمناقشة والحوار في دير الآباء الكرمليين في محلة سوق الغزل ببغداد، واختار وهو المسيحي يوم الجمعة احتراما لمقام ضيوفه ومجتمعه إذ كان وفياً لوطنه وأميناً لعلاقاته الاجتماعية، وكان يتردد عليه أساطين اللغة العربية وعلمائها وأعيان البلد على اختلاف مللهم ونحلهم، ومن رواد المجلس الشيخ جلال الحنفي والعلامة مصطفى جواد ويوسف رزق الله غنيمة وصفوة في مجالات الادب، واللغة، والاجتماع، والفلسفة. المجلس يبتدئ من الساعة الثامنة صباحا الى الساعة الثانية عشر ظهرا تدور فيه كل البحوث (الا السياسة والدين) وكان لمجلس الراهب صفه لها جمال ورونق اذ تجد فيه المسلم والمسيحي واليهودي تجمعهم اخوة العلم والأدب والوطن.
وضع الكرملي كتبًا مهمة وأبحاثًا مفيدة عن اللغة العربية وكان يدعو للتصحيح اللغوي والحفاظ على اللغة العربية وألف معجمًا سماهُ المساعد وكان يرى في الخروج على اللغة العربية خطئًا لا يمكن قبوله أو التساهل فيه. وساهم في عملية التعريب، وأصدر مجلتين وجريدة. وتميزت مجلة لغة العرب التي أصدرها في عام 1911م بأبحاثها الأدبية والتأريخية، وخدمت اللغة العربية وتُرجمت مقالاتها الى عدد من اللغات الأوربية وكتب فيها أبرز المؤلفين والكتاب من مفكري ومثقفي بغداد في تلك الفترة.
شكل اطلاع الكرملي على عدد من اللغات حيزا واسعاً من ثقافته إذ اتقن الاب انستاس الكثير من اللغات: منها اللاتينية واليونانية والفرنسية والإنكليزية والإيطالية والألمانية والكلدانية، والسريانية، والمندائية والتركية والفارسية والعبرية، والحبشية. وتوج ذلك كله بتفرده بلغته العربية فكان مستودعاً للغات ومنبعاً يغرف منه المفردات والتراكيب للمقارنة بين لغات العالم ومقابلة بعضها مع الأخر وجعلت منه باحثاً ومقارناً كبيرا وكانت حصيلة جهوده هذه عددا كبيرا من المؤلفات المطبوعة والمخطوطة والمئات من المقالات العلمية في شتى صفوف المعرفة.
من أبرز الكتب التي تركها الكرملي: أغلاط اللغويين الأقدمين، والفوز بالمراد في تاريخ بغداد، ومختصر تاريخ العراق، وجمهرة اللغات، وأديان العرب، ونشوء اللغة ونموها، وشعراء بغداد وكتابها، والعرب قبل الإسلام، كما قام بتحقيق جزء من معجم العين للفراهيدي، وكتاب نخب الذخائر في أحوال الجواهر لابن الأكفاني، والإكليل للهمداني، وفضل العرب في علم الحيوان، والنقود العربية وعلم النميات، والمساعد وكثير من المخطوطات.
حظي الكرملي بتقدير كثير من الهيئات والمجامع العلمية واللغوية، فانتخب عضوًا في مجمع المشرقيات الألماني سنة 1911م والمجمع العلمي العربي في دمشق سنة 1920م واختير ضمن أول عشرين عالمًا ولغويًا من العالم العربي في مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1932م وكرمته الحكومتان الفرنسية والبريطانية بأوسمة الاستحقاق والتمييز.
يرقد الكرملي رقدته الابدية في كنيسة اللاتين التي تحتل من بغداد قلبها فهي تقع في “شورجة بغداد” مقابل جامع الخلفاء او ما اصطلح عليه اسم “منارة سوق الغزل “او المسجد الجامع. وترك الراهب الحارس عند وفاته عام 1947م عددًا هائلا من الكتب لا يزال معظمها مخطوطًا لم يطبع، وخلّف ما يزيد على أكثر من 1300 مقالة تمثل جزءا كبيرًا من إنتاجه الفكري والأدبي وبعد وفاته ألحقت مكتبته بمكتبة الآثار العراقية في بغداد. ترك عند وفاته مكتبة نفيسة تضم بين جدرانها سبعة آلاف كتاب من الكتب العلمية والأدبية والثقافية وهي مصنفة إلى اللغات العربية والإنكليزية والفرنسية، ومكتبة الأب أنستاس ماري الكرملي في كنيسة اللاتين تعتبر من الكنوز الأدبية والثقافية للبلاد.
هرمز رسام (1826-1910) أول عالم أثار ومشرقي عراقي
العراق في القرن الثامن عشر والتاسع عشر كان ولاية تابعة للدولة العثمانية وفي تلك الفترة لم تكن هناك قوانين لحماية الآثار أو اللقى الأثرية وكانت الدولة العثمانية تعطي التصاريح للتنقيب في أماكن متعددة من الأراضي التابعة لها خصوصا للسفراء والقناصل. وكان العراق قبلة لعلماء الأثار الأجانب ومنجم نفيس للكشف عن اولى حضارات الانسان التي عاشت في وادي الرافدين.
وغدت الاركيولوجيا العراقية (علم الاثار والنفائس) من اهم علوم ذلك العصر التي كشفت بآثارها المادية عن خفايا لم يكن الانسان يعلم عنها شيئا الا ما هو مثبت في الكتب الدينية. وبرز من المختصين العراقيين في ريادة الاركيولوجيا العراقية الدكتور هرمز رسام ابان القرن التاسع عشر، وهو من عائلة مسيحية كلدانية موصلية وكان أبوه أنطون رسام أسقف كنيسة الشرق الكلدانية في الموصل وأمه كانت تريسا إسحق حلبي (من حلب).
كان رسام جزءًا من فريق البعثة الاستكشافية الشهيرة لعالم الآثار البريطاني السير أوستن هنري لايارد (1817 - 1894) وهو عالم آشوريات إنجليزي، ورحالة، ومسماري، ومؤرخ، ورسام، وجامع أعمال فنية، وسياسي، ودبلوماسي، قام بالتنقيب في موقع النمرود القديم. ووصل السير (هنري اوستن لايارد) الموصل عام 1840 بتفويض من سفير بريطانيا في الإستانة/إسطنبول للتنقيب عن الأثار الأشورية في العراق بحثا عن المنحوتات والمخطوطات الفنية البارزة وكشف عن كنوز اشورية في كل من نينوى وخرسباد والنمرود/كالخو.
حين جاء لايارد الى الموصل استعان بهرمز رسام لإتقانه الانجليزية، والتركية، والعربية، والكلدانية. وبتشجيع منهُ سافر إلى بريطانيا حيث تلقى علومه في جامعة اكسفورد وعاد إلى نينوى للتنقيب عن الآثار حيث يعزى إليه بالعديد من الاكتشافات الهامة، منها الألواح اللبنية التي ضمت ملحمة كًالكًامش التي تعتبر أقدم عمل أدبي في العالم، وكشف عن الكثير من الآثار في نينوى ومنها تماثيل الثيران المجنحة التي شحنها إلى بريطانيا عن طريق نهر دجلة بواسطة قوارب تسمى (الكلك) إلى شط العرب حيث نقلتها السفن البريطانية من هناك.
خلال العامين 1849-1850 كان هرمز يعاون في التنقيب في اثار تل قوينجق. في عام 1851 غادر لايارد الموصل راغبا بعد اشتهاره بالكنوز الاثارية الاشورية وخاصة مكتبة سنحاريب والثيران المجنحة، ان يعمل في السلك الدبلوماسي، وحل محله هرمز رسام.
وكان هرمز رسام رحالة، ومغامرهاجر الى بريطانيا واستقر بها، ويمكن اعتباره أول عالم أثار ومشرقي ولم تزل صورته الزيتية معلقة في واحدة اهم قاعات المتحف البريطاني اعترافا بجهوده الكبرى للتاج البريطاني. وكتبت جريدة التايمز اللندنية نعيا له يوم وفاته 17 تشرين اول 1910،.
بهنام أبو الصوف (1931-2012)
يُعد عالم الأثار والمؤرخ العراقي الدكتور بهنام ناصر نعمان أبو الصوف من أساطين الجيل الثاني للآثاريين العراقيين المرموقين في المحافل المحلية والعربية والدولية وقد اقتفى خطى اساتذته الكبار من جيل الرواد في مجال الآثار وفي مقدمتهم العلّامة طه باقر والاستاذ فؤاد سفر وآخرين سعوا حثيثاً من اجل بناء خبرات عراقية للنهوض بقطاع الآثار الناشئ والذي لبث على مدىً طويل موكولاً لمنقبين وإداريين أجانب.
الدكتور بهنام أبو الصوف ولد في الموصل عام 1931 ونشأ في كنف أسرة أبو الصوف الموصلية المعروفة، التي تسكن محلة باب النبي وهي من إحياء الموصل القديمة وتقع بالقرب من مناطق تاريخية وأثرية. وكانت نشأته في بيئة غنية بآثار الماضي، وقصص الأبطال، كان لها الأثر الكبير في توجهه إلى عالم الآثار، وكان في مرحلتي الطفولة والمراهقة مهتما بقراءة الاساطير وكتب التاريخ، كما كان يمارس رياضة كمال الأجسام، والسباحة، وكان يحلم بوظيفة مليئة بالمخاطر والأسرار والبطولات، ويتطلّع الى ان يصبح طياراً أو بحاراً، وهذا ما رفضته اسرته بشدة.
بعد إنهاء دراسته الإعدادية في الموصل عام 1951 التحق بقسم الاثار والحضارة في جامعة بغداد وتخرج منها عام 1955. وبعد خمسة اعوام أي في عام 1960 سافر الى بريطانيا بمنحة دراسية في جامعة كمبريدج التي حصل منها على درجة الدكتوراه بامتياز في موضوع جذور الحضارة وعلم الأجناس البشرية عام 1966.
في اواسط ستينيات القرن الماضي عاد إلى العراق ليعمل في التنقيب عن الآثار في عدد من المواقع وسط العراق وشماله، كما دَرّس لسنوات مادة “جذور الحضارة والآثار والتاريخ” في جامعتي بغداد والموصل وغيرهما من الجامعات العراقية، وفي معهد التاريخ العربي للدراسات العليا التابع لاتحاد المؤرخين العرب ومقره بغداد، كما أشرف على عدد من الرسائل الجامعية لطلبة عراقيين وعرب.
وفي السبعينيات، تم تعيينه مديراً عاماً لآثار الشمال، وهو المنصب الذي منحه المسؤولية الكاملة عن شمال العراق بأكمله، بما في ذلك آشور القديمة. عمل أبو الصوف في أعمال التنقيب الإنقاذية في حوض واسع في سد حمرين (محافظة ديالى) وسد الموصل على نهر دجلة في أواخر السبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات وكشف عن عدة مواقع أثرية منها تل الصوان في سامراء (محافظة صلاح الدين)، والذي يعود إلى العصر الحجري. كما قاد عمله في موقع قينج آغا بالقرب من قلعة أربيل للكشف عن مجموعة واسعة من الأدلة الأثرية من فترة أوروك.
تبوأ الدكتور ابو الصوف عددا من المناصب العلمية والإدارية في هيئة الآثار والتراث، وشارك في العديد من مؤتمرات الآثار، وفي حلقات دراسية داخل العراق وخارجه، كما دعي لإلقاء محاضرات في جامعات أميركية وأوربية في موضوع آثار العراق وحضارته وعن نتائج تنقيباته، ونشر بحوثا ودراسات، وتقارير علمية عن نتائج أعماله الميدانية ودراساته المقارنة في مجلات علمية عراقية وأجنبية، وله مؤلفات عديدة منها فخار عصر أوروك: النشأة والانتشار (لغة إنجليزية)، وظل الوادي القديم (لغة عربية)، والعراق: وحدة الأرض والحضارة والإنسان (لغة عربية).
متي عقراوي – (1901- 1981) أكاديمي عراقي وأول رئيس لجامعة بغداد
ولد متي يوسف حنا عقراوي في الموصل سنة 1901، وفيها أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة ومنذ صباه تعلم الفرنسية في إحدى المدارس الدينية الكنسية. سافر إلى بيروت ودخل إعدادية الجامعة الأمريكية سنة 1920 وتخرج وعهد إليه بإلقاء الخطاب الوداعي في حفل التخرج. تخرج في كلية الآداب والعلوم من الجامعة ذاتها حاصلا على بكالوريوس في التربية سنة 1925. التحق بكلية المعلمين في الولايات المتحدة الأميركية بين سنتي 1925-1926 ودرس التربية، وفي سنة 1934 حصل على الدكتوراه من جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأميركية.
من التربويين العراقيين الرواد الذين كان لهم دور فاعل في تأسيس الكيان التربوي والجامعي في العراق. كما كان له دور في الحركة العربية في بدايات النهضة الفكرية الحديثة في العراق مطلع القرن العشرين. عمل أستاذا للتربية ومديرا للتربية، وعميدا لدار المعلمين العالية. وأسهم إسهاما كبيرا في تأسيس جامعة بغداد، وعين أول رئيس لها للمدة من 5 تشرين الأول سنة 1957 ولغاية 1 من آب سنة 1958
انغمس الدكتور متي عقراوي في نشاطات ثقافية وتربوية عامة، وأصبح سكرتيراً (لجمعية الثقافة العربية) سنة 1931، كما كان عضواً في نادي القلم العراقي الذي تأسس سنة 1934، وفي سنة 1946 اختير عضوا عاملا في المجمع العلمي العراقي وقد كان من الذين عملوا من اجل تأسيس مطبعة خاصة بالمجمع منذ وقت مبكر من تأسيسه في نهاية الحرب العالمية الأولى، وكان إلى جانبه في اللجنة التي تشكلت للنظر في تأسيس المطبعة الأستاذ محمد بهجت الأثري والأستاذ الدكتور جواد علي.
في سنة 1955 استدعي الأستاذ الدكتور متي عقراوي مع الأستاذ الدكتور إسماعيل القباني لدراسة واقع التعليم في الكويت ووضع المقترحات لتطويره وأنجزا تقريرًا مهًما نشر بعنوان: “ تقرير عن التعليم في الكويت “ صدر في 1955 ويعد من التقارير المتميزة التي ارتكز عليها البنيان التعليمي في دولة الكويت فيما بعد. كما أنه يعد من المصادر المهمة في كتابة تاريخ التعليم الوطني في الكويت.
عمل في منظمة اليونسكو مدة تسع سنوات إلى سنة 1957 حين أصبح رئيسًا لجامعة بغداد 1957-1958 وبعد إعفائه من منصب رئيس جامعة بغداد بعد وقوع انقلاب 14 تموز 1958، عاد للعمل في منظمة اليونسكو فأصبح ممثلها في الأمم المتحدة 1959-1961. عمل في الجامعة الأميركية ببيروت خلال السنوات (1963-1971) وبعدها أحيل على التقاعد ليتفرغ للعمل البحثي.
نال خلال حياته العديد من الأوسمة والتكريمات، منها حصوله على وسام الرافدين سنة 1953 ووسام الخدمة الممتازة من كلية المعلمين في الولايات المتحدة الأميركية سنة 1960، ووسام الاستحقاق” درجة فارس” من الحكومة اللبنانية 1970.
الرواد الأوائل في القرن العشرين:
العراق ليس العراق إذا استثنينا من ذاكرته الجماعية كبار الشخصيات التنويرية المسيحية مثل المؤرخين والأكاديميين والعلماء والأطباء والصيادلة والمحامين والكتاب والصحفيين وعلماء الآثار والشعراء والفنانين والرياضيين وغيرهم، ولا يمكننا أن ننسى عدداً مميزاً من المثقفين المسيحيين العراقيين قدموا مساهمة حقيقية في تقدم وتطور الأمة العراقية بعد نشأتها الأولى في أوائل القرن العشرين وآخرون قدموا للعراق والعراقيين خدمات لا تنسى في القرن الماضي سيما في مجال العلم والتعليم إذ كان المعلمين المسيحيين مشهورين بمعرفتهم العميقة للتأريخ والمجتمع وأدائهم الدؤوب ومصداقيتهم وحبهم لمهنتهم وتربّت أجيال عراقية بأكملها على أيادي مربين ومعاهد تعليمية مسيحية غرست حب العلم والمعرفة في أجيال من الطلاب وتكوين مجموعة نيرة من العراقيين الأكفاء.
ومن المؤكد أن هناك الآلاف غيرهم من العراقيين والعراقيات الذين كان لهم دور في بناء العراق وتطويره عبر العصور المختلفة مع مواطنيهم من كافة الانتماءات القومية والدينية والمذهبية، ولكن ضمن مساحة مقالتنا المحدودة نعتذر لعدم ذكرهم جميعاً، وأن نسجل أسماء قلة من المسيحيين الذين كانوا الأوائل خلال القرن العشرين ومنذ تأسيس المملكة العراقية، وجميعهم كانوا شموس وكواكب أضاءت دروب المعرفة والثقافة وعرفوا بالنزاهة والإخلاص للعراق.
ونحن إذ نقف أمام بوابة الذكريات نأمل أن يجد القارئ في هذه المقالة استرجاع للتاريخ ولو بقدر محدود ليكون درسا للمستقبل وشهادة نزيهة عن دور الرواد المسيحيين الذين جمعوا فيما بينهم ابداعات العالم القديم والوسيط والحديث وتكتسب هذه الشهادة أهميتها من كونها تقدم تأريخ تعززه الأسانيد والإثباتات عن تأريخ وأدوار المكونات في هندسة وبناء اركان المجتمع العراقي بغية تطويره ليكون درساً وامتداداً للمدرسة النهضوية العراقية التي مثلت أحد أبرز وجوه الجانب المشرف لعراق الحضارة والتاريخ في مطلع القرن الماضي.
وكم من المحزن ان يعاصر جيلنا غياب وتهجير ما تبقى من المسيحيين العراقيين في سنوات القهر والجمر ونجدهم ينقرضون وهم يدافعون عن وجودهم التاريخي وسط مجتمع متزمت غداّر وامام مصير مجهول وما يلاقونه من اعتداءات ظالمة لم يألفوا مثلها ابدا مذ وجدوا في بلاد الرافدين منذ الاف السنين. ومن المؤسف أيضاً أن نرى تغير هوية العراق والشرق الأوسط في القرن الواحد والعشرين الى هوية أحادية فاقدة لكافة امتيازات التنوع والتعدد التي كانت تشكل رأسمال وكنوز خزانه الوطن ثقافة وفنّا، وفكراً.
هذه كانت ذكريات لا تخلوا من الفخر والقهر في ذكر تأريخ أبناء العراق سيما وأن ماحل بالمكونات بعد 2003 لا يدعو للحزن والشجن فقط، بل للرثاء والبكاء حيث عملت أيادي السلب والنهب ما عملت في الترهيب والتهجير ومن المؤسف ان نرى كيف تذبل وتيبس وتهمل فسائل ومكونات الوطن ومن الغريب ان لا يحتضنهم وينصفهم وطنهم ويقّدر وُيثمن ويحتضن علماء وأبناء العراق في بلدان الغرب وهم ملح العراق ومن طين وادي الرافدين.
وهكذا بعدما يمضي الوقت تبقى الذكريات مرآة للماضي وشاهد للمستقبل تحكي قصة الأقليات والنكسات التي تعرضوا لها فبقي منهم من بقي ورحل من رحل وبغيابهم تراجع دور بقية المكونات وضعفت قدرات العراق وبات هدفا للطامع والغريب، ومن المهم والمطلوب هو استيعاب الدرس والبدء بمراجعة وتقويم الأخطاء من اجل خلق أجواء مواطنة رصينة وبناء جسور مجتمعية ثابتة واسترجاع قيمة وهيبة وكرامة الانسان.
ويكفينا فخراً أن قصص وإنجازات الرواد كانت وستبقى شموس ساطعة في سماء الوطن لتذكّرنا بأن الذكريات لها أهميتها، ولكن الحاضر هو المنصة التي نعيش عليها ويجب أن نستثمرها في خلق ذكريات جديدة تضاف إلى سرد حياتنا وتوسيع افاقنا وتأثيرنا حيثما كنا وأينما حللنا في الولايات المتحدة أو ديار المهجر. وعلينا أن ندرك بأن الحاضر هو المكان الذي نعيش فيه وهو الذي سيصبح ذاكرة نحتفظ بها عندما يمضي الزمان وتستمر الحياة في التقدم، وواجبنا أن نسعى لخلق ذكريات ملهمة تعيش معنا ومع الأجيال القادمة كدليل واضح على غنى تراثنا وتاريخنا وتبقى من بعدنا في ضمائر وقلوب الآخرين وتمكن العراقيين من استعادة سيادة وكرامة وطنهم وأن يكملوا سفرة الحياة ما بقي بينهم دجلة والفرات.