الرهبانية الكلدانية الأنطونية الهرمزديانية
بقلم حنان قيا
لطالما ارتبط تاريخ الكلدان في العراق بمعالمه المقدّسة وأديرته التي تحكي قصص الإيمان والصمود عبر الأجيال. ولكن في هذا المقال، ننطلق في رحلة مختلفة إلى قلب مؤسسة روحية عريقة: الرهبنة الأنطونية الهرمزدية الكلدانية. هذه الرهبنة، رغم استقلالها عن الهيكل الكنسي التقليدي، تُشكّل رافدًا مكمّلًا للرسالة الروحية والثقافية للكنيسة الكلدانية.
من خلال إجابات قدّمتها أمانة السرّ العامة للرهبنة الأنطونية الهرمزدية، التي يترأسها الأنبا الدكتور سامر صوريشو الراهب، نتعرّف على مسيرة هذه الرهبنة الفريدة، بدءًا من نشأتها وقيادتها، مرورًا بأنشطتها وإنجازاتها، وصولًا إلى التحديات التي تواجهها في عالم سريع التغيير. إنها قصة تسلّط الضوء على الجهود الحثيثة لحفظ التراث الكلداني وتعزيز القيم الروحية.
فيما يلي، نفتح نافذة على هذا العالم الاستثنائي، كما روت تفاصيله أمانة السرّ العامة للرهبنة.
• هل يمكنكم إعطاؤنا نبذة عن تاريخ الرهبنة الأنطونية الهرمزدية؟
انبثقت النواة الأولى للرهبنة في النصف الأول من القرن السابع الميلادي على يد الراهب الكبير (الربّان هرمزد) الذي ترك وطنه وأهله وتجرّد من كل شيء، قاصدًا الأماكن المقدّسة، ناويًا المضي إلى صعيد مصر. لكن الإرادة الربّانية شاءت أن يُنشئ رهبنته في صومعة للصلاة والتأمل حفرها بيده في الجبل المطلّ على بلدة القوش، حيث وجد هناك ينبوع ماء. وما إن سمع الناس ما يجري على يده من العجائب وشفاء المرضى حتى قصده الكثيرون، وانتمى إليه بعض الشباب. هكذا تكوّنت المرحلة الأولى من الحياة الرهبانية نحو سنة 640م.
من ثم واصلت الحياة الرهبانية مسيرتها الشاقة بالرغم من الظروف العصيبة التي واجهتها، من الحروب والغزوات البربرية المتكررة وما خلفته من دمار، مما أدى إلى تشتّت الرهبان وأصبح الدير مهجورًا لفترات طويلة. إلا أن صلوات الربّان هرمزد لم تذهب سدىً، بل أعطت ثمارًا، فقد هيأت العناية الإلهية رجلًا فاضلًا اسمه جبرائيل دنبو، المولود سنة 1775 في ماردين، ليقوم بتجديد الحياة الرهبانية في دير الربّان هرمزد. وهذا ما تحقق فعلاً، إذ فتحت أبواب الدير مجددًا سنة 1808م، وهكذا عادت الحياة الرهبانية لتنبض قلبًا للكنيسة الكلدانية.
• من هو مؤسس الرهبنة، وما هي رؤيته؟
كان من بين الأسر الماردينية (ماردين) الكلدانية بيت شمعون بن بطرس دنبو، سليل أسرة كريمة كانت تلقب “بالشيخ” لمكانتها الاجتماعية. وكانت مهنته الحياكة، وقد تزوج من المدعوة شمس أو شمسي، وهي من بنات عمومته، فرزقهما الله بابنين وأربع بنات. وُلد الأب جبرائيل سنة 1775، ونما في محيط معبق بروح الإيمان ومخافة الله، فكانت أمه تهتم بتعليمه منذ نعومة أظفاره الصلوات القصيرة ومبادئ الديانة المسيحية. في تلك الأيام، رأى والد جبرائيل أن ابنه قد كبر في السن والقامة، ففكر بإرساله إلى المدرسة الخاصة بالأولاد الكلدان ليتعلم مبادئ اللغة العربية واللغة الكلدانية والتراتيل الدينية: الطقسية والشعبية، والتعليم المسيحي. وعندما بلغ العشرين من عمره، عمل في التجارة وكان يبحث عن المزيد من المعرفة والتعليم.
حدث لجبرائيل دنبو ما لم يكن بالحسبان، فوقع طريح الفراش وثقل مرضه، ويقال إنه كان مرض الملاريا. بعد أن شفي من مرضه، نذر نفسه للحياة الرهبانية، وسعى بإصرار إلى تأسيس الرهبنة الهرمزدية. وبعد جهد ومصاعب وعقبات، تمكن من استلام الدير عام 1808م، حيث كان الدير قائمًا بكنائسه وأسواره وأبوابه التي استلم مفاتيحها الأنبا جبرائيل دنبو من مطران العمادية حنانيشوع، ابن عم البطريرك يوحنا هرمزد، لأن الدير كان يعود إداريًا إلى أبرشية العمادية. في صيف 1827م، قصد الأنبا جبرائيل روما لتثبيت قوانين الرهبنة التي سمّاها “الرهبنة الأنطونية الهرمزدية الكلدانية”، وعاد بعد ثلاث سنوات قضاها في روما. وحاول بعد عودته توطيد دعائم الرهبنة، ولكن هجمة أمير راوندوز (ميرا كور) الشرسة على الدير والقوش أودت بحياة المئات، ومن بينهم الأنبا جبرائيل دنبو وثلاثة رهبان آخرين. وكان ذلك في يوم 15 آذار 1832م.
إن شهادة الأنبا جبرائيل دنبو الروحية تظهر من خلال إرسال الأخوة للبشارة في الكنائس وخدمة الأسرار في بلاد ما بين النهرين، حيث ربط الكنيسة من جهة بالله من خلال الصلاة، ومن جهة أخرى بالإنسان من خلال العمل الرسولي. وهو بهذا اكتشف قدرات الرهبنة والأخوة كي يخدموا بها رسالة المسيح في هذا العالم. مرّ جبرائيل بالإضطهادات ومن ثم الاستشهاد، فالحقيقة هي تلاقي الحب بالموت، وهذا ما أثبته الأنبا جبرائيل دنبو الشهيد بدمه الأفخارستي، إذ جعل من حبه للحياة الرهبانية دماء خصبة من أجل كثيرين. لا يمكن للحب أن يكون حبًا إن لم يكن مضحيًا.
• كم عدد الأديرة المرتبطة حاليًا بالرهبنة الأنطونية الهرمزدية وأين تقع؟
1. دير الربّان هرمزد – ألقوش:
يُعتبر الدير الأم للرهبنة، وهو من أهم المعالم الروحية والإرث الحضاري والتاريخي للكنيسة. تمتد جذوره في عمق التاريخ الرهباني والكنسي. يعود تاريخ تأسيسه إلى القرن السابع، وقد أصبح مقرًا لكرسي جاثاليق كنيسة المشرق لأكثر من ثلاثة قرون.
2. دير السيدة مريم العذراء حافظة الزروع – ألقوش:
بُني هذا الدير في عهد الأنبا إليشاع عام 1858م نتيجة لزيادة عدد الرهبان وانتشارهم، فلم يسعهم البقاء في الجبل، مما اضطرهم إلى النزول إلى السهل، لا سيما بعد توجيه رسالتهم نحو خدمة المؤمنين الروحية في القرى القريبة والنائية.
3. دير مار كوركيس – الموصل:
كان في الأصل كنيسة لقرية (بعويرا)، وقد أصبح ديرًا قانونيًا للرهبنة في 17 تشرين الثاني من عام 1863م تلبية لطلب البطريرك يوسف أودو. يُعد هذا الدير من أهم المعالم الدينية لمدينة الموصل. افتُتحت فيه سنة 1962م مدرسة رسوليّة تخرّج منها رهبان وكهنة شغل عدد منهم مناصب رعاة في الكنيسة الكلدانية، فكان مركزًا روحيًا وثقافيًا أُقيمت فيه دورات لاهوتية وكتابية. في سنة 2014م، وعند احتلال داعش لمدينة الموصل، تعرّض الدير للتدمير. اليوم، تقوم الرهبنة بترميمه من جديد.
4. دير مار يوسف – روما:
تأسس هذا الدير في عام 1982م في روما - إيطاليا. وهو مقرّ الوكالة لدى الكرسي الرسولي، لأن الرهبنة تمتاز بالحقّ الحبري. في ذات الوقت، يحتضن الإخوة الدارسين في المعاهد والجامعات الفاتيكانيّة بغية الحصول على الشهادات العليا وتسخيرها في خدمة الرهبنة والكنيسة.
5. دير مار أنطونيوس – بغداد:
تم تأسيسه في ستينات القرن الماضي، وانتقل إليه مقر الرئاسة العامة عام 1994م. كان يضم الإخوة الرهبان الدارسين في كلية بابل للفلسفة واللاهوت، إضافة إلى دار الابتداء. كان يحتوي على مكتبة كبيرة تضم الكتب النفيسة والمخطوطات النادرة. قبل سقوط بغداد، أُنشِئ مركز ثقافي يصدر المنشورات والكتب في مختلف المواضيع، بالإضافة إلى مجلة “رَبَّنوثا” الناطقة باسم الرهبنة. هجَرَ الرهبان الدير إثر سقوط نظام الحكم في العراق عام 2003م، ومن ثم تدهورت الأوضاع السياسية نتيجة الإرهاب والعنف الطائفي، مما أدى إلى إخلاء الدير من الرهبان.
6. المجمع العام للرهبنة الأنطونية الهرمزدية الكلدانية – عنكاوا:
قامت الرهبنة بافتتاح هذا المجمع في مدينة عنكاوا سنة 2022م لتعويض ما خسرته من أديار مثل دير مار كوركيس في الموصل المُدمَّر من قبل داعش، ودير القديس أنطونيوس الذي أخلي في بغداد. كما يُعتبر المجمع مقرًّا عامًا للرهبنة ليتمكن الرهبان من القيام بالنشاطات الرعوية والتعليمية، إلى جانب دورهم في الحفاظ على تراثهم الثقافي القديم والغني والأصيل لخدمة ذاكرة البشرية والكنيسة الجامعة. يشمل المجمع:
• دير خادم الله الشهيد الأنبا جبرائيل دنبو
• كنيسة مار أنطونيوس الكبير
• المركز الثقافي لحفظ المخطوطات السريانية “Scriptorium Syriacum”
• قاعة البطريرك مار يوسف السادس أودو للمؤتمرات
• مكتبة الأنبا شمؤيل جميل
• دار مار كوركيس للضيافة
• ما هو عدد الرهبان الحاليين في الرهبنة، وكيف تغير هذا العدد مع مرور الزمن؟
عدد الرهبان المتواجدين حاليًا في الرهبنة يبلغ 11 راهبًا. وبسبب الاضطرابات السياسية وعدم الأمان التي مرّ ويمر بها العراق، أدى هذا بشكل كبير إلى قلة عدد الدعوات، حيث يُفكر الجميع في تأمين لقمة العيش أو العيش الرغيد، فنجد أن شبابنا يتوجهون إلى الهجرة أكثر من التفكير في تكريس حياتهم لله في هذا النمط من الحياة. ومنذ أكثر من خمسة عشر عامًا، لم يدخل أي راهب إلى الرهبنة. وعلى الرغم من أن هذه المؤشرات قد تكون مقلقة بعض الشيء، فإننا مؤمنون بأن رب الحصاد سيرسل فاعلين إلى حصاده. إذا كانت قلة الدعوات نتيجة لظرف معين، فمن المؤكد أن هذه الظروف لن تبقى على هذا الحال. الأهم من ذلك هو أن نبقى متيقنين، وندعو ونصلي لرب الحصاد أن يرسل فاعلين لحصاده.
• ما هو الدور المحدد لدير السيدة العذراء حافظة الزروع ودير الربان هرمزد داخل الرهبنة؟
يعتبر دير السيدة العذراء حافظة الزروع هو الدير الثاني بعد دير الربان هرمزد، حيث يتواجد فيه رئيس الدير مع الآباء والإخوة الرهبان، ويقومون بعيش حياتهم الروحية من خلال الصلاة اليومية، بالإضافة إلى قيامهم برسالتهم الرعوية في خدمة المؤمنين الروحية في القرى القريبة والنائية. ويُعتبر أيضًا مكانًا روحيًا للصلاة، حيث يستقبل الدير الرياضات والنشاطات الروحية المختلفة. أما بالنسبة لدير الربان هرمزد، فيعتبر اليوم ديرًا أثريًا ومركزًا للخلوات الروحية، حيث يأتي المؤمنون من جميع بقاع العالم للصلاة والتبرك.
• ما هي المراكز أو المؤسسات الأخرى التابعة للرهبنة الأنطونية؟
دار مار يوسف للأيتام:
نتائج الحروب هي الدمار والخراب، وهذا أمرٌ لا شك فيه. من هذا المنطلق، كان للحرب العالمية الثانية تأثير كبير على ارتفاع عدد الأيتام والمشردين، وكذلك على الانحرافات الخطيرة للأحداث، في جميع البلدان التي شاركت في الحرب أو تعرضت للاحتلال. وقد امتد هذا التأثير إلى الشرق الأوسط، ومن بينه العراق الذي مرّ هو أيضًا بأيامٍ عسيرة. فكان لا بد من أن تظهر عواقب تلك الأيام الوخيمة في المجتمع العراقي.
من أخطر هذه العواقب كان ترحيل الناس عن منازلهم وتهجيرهم (سواء كان ذلك لداعٍ سياسي، أو بسبب التشغيل القسري). وقد أدت هذه الظروف إلى تفكيك عدد كبير من العائلات. ونتيجة لذلك، ضاعف سوء التغذية من جهة، وزاد عدد الجرائم ذات الطابع الاقتصادي مثل السرقة، سوء الأئتمان، والتهريب بكافة أنواعه. كما أثار ذلك عند الأطفال اضطرابات نفسية شجعتهم على ترك المدارس.
في ضوء هذا الواقع المرير، كان للرهبنة دور فاعل وبارز في معالجة وتذليل الصعاب وتخفيف وطأة المصائب التي خلّفتها تلك الأحداث، من خلال مرافقة شعبها في جميع ظروف حياتهم. لم تكتفِ الرهبنة بهذا القدر، بل دفعها هذا الوضع إلى اتخاذ موقف يساهم في حل المشكلة ويخفف من الأضرار.
وقد ترجمت هذا الموقف بإنشاء ميتم خاص يرعى الأيتام والمشردين الذكور، أطلقت عليه اسم “ميتم مار يوسف البتول”. جاء هذا العمل بعد دراسة مستفيضة استغرقت عدة شهور ضمن اجتماعات موسعة ومداولات جادة. وبعد تحديد موقعه الجغرافي ليكون ملاصقًا لدير السيدة حافظة الزروع من الجهة اليمنى، وُضع له حجر الأساس بتاريخ 21 آب 1949، تحت رعاية وحضور الأنبا (المطران فيما بعد) إسطفان بلو الرئيس العام، وبمعية الآباء والإخوة الرهبان.
دار النشر التابعة للرهبنة الأنطونية الهرمزديّة الكلدانيّة:
بمباركة غبطة أبينا الراحل البطريرك مار روفائيل الأول بيداويد المثلث الرحمة، تم افتتاح مبنى المركز (مركز جبرائيل دنبو الثقافي) في 15/3/2002، في ذكرى استشهاد خادم الله الشهيد الأنبا جبرائيل دنبو - الذي سُمّي المركز باسمه - مؤسس الرهبنة في الكنيسة الكلدانية بعد اندثارها قرابة مائة عام. كان مبنى المركز يقع في دير مار أنطونيوس ببغداد، إلا أن الرهبانية قررت نقله إلى الموصل في دير مار كوركيس بسبب الظروف التي عصفت ببغداد، خصوصًا في منطقة الدورة.
بعد ذلك، وفي أعقاب احتلال داعش لمدينة الموصل، قاموا بسرقة المركز وحرقه بالكامل. ولكن اليوم، قام الآباء والإخوة الرهبان ببناء مركز ثقافي جديد ضمن المجمّع العام للرهبنة الأنطونية الهرمزديّة الكلدانية في عنكاوا، لإعادة نشر الكتب.
ويحتضن المركز المخطوطات السريانية التابعة للرهبنة، التي تتمتع بتاريخ عريق. فهي واحدة من أكبر المجموعات الدينية الخاصة التي تحتفظ بالمخطوطات القيمة في العراق، وتحتوي على المئات من المخطوطات في شتى المجالات. تضم خزانة الرهبنة العديد من المخطوطات القديمة التي تتراوح أعمارها بين القرن الثامن الميلادي وحتى أيامنا هذه، إلى جانب أرشيف المراسلات الشخصية للعديد من الشخصيات المعروفة من بطاركة وأساقفة ورؤساء عامين ورجال دين ودولة، فضلاً عن أرشيف الصور والتوثيقات السمعية والبصرية، والمقتنيات الأثرية، والذخائر، والطوابع وغيرها.
• ما هي الأنشطة أو المهمات الرئيسية التي يقوم بها الرهبان هنا؟
إنّ موهبة “كاريزما” رهبنتنا تتمحور حول حياة الصلاة وحياة العمل، وبهما نبشِّر بملكوت الله. يعيش الرهبان هذه الموهبة من خلال الحياة المشتركة التي تشكّل جزءًا أساسيًا من الحياة الرهبانية، وطريقًا للنمو في جوّ التقبّل المتبادل، والتسامح، وقبول الفوارق والحدود. في هذا الجو، يشهد الرهبان لملكوت المسيح وحضوره المنعش، طبقًا لما جاء في الإنجيل المقدّس: «فَحَيثُما اجتمعَ اثنانِ أو ثلاثةٌ باسمي، كنتُ هناكَ بينَهم» (مت 18: 20).
تقوم حياة الراهب على الصلاة والعمل؛ فالصلاة، المركّزة على الكتاب المقدس والليتورجيا، ينبغي أن تكون أساس العمل والعلاقة الأخوية بين أفراد الجماعة الواحدة. بالإضافة إلى ذلك، يشغل الدرس والتثقيف والمطالعة مجالًا هامًا في نهار الإخوة الرهبان، ولا يُضحَّى بذلك إلا لأسباب ضرورية وطارئة، حتى لا تكون الدراسة والتثقيف على حساب الحياة الرهبانية ونظامها، وخصوصًا الصلاة.
يعتبر العمل عنصرًا أساسيًا في التقدّم البشري ويتيح للرهبنة أن تلبّي حاجاتها الجماعية والرسولية، وهو وسيلة اللقاء بجميع الأخوة. حيث يعمل الرهبان اليوم من خلال الرسالة والخدمة الرعوية والتعليم في الجامعات الأكاديمية، بالإضافة إلى إعطاء المحاضرات الروحية والثقافية للشباب بمختلف أعمارهم.
إضافة إلى ذلك، يعمل الرهبان اليوم في حفظ إرثهم الرهباني والكنسي من خلال العمل الذي تقوم به المكتبة السريانية على المخطوطات التابعة للرهبنة. حيث يقوم الرهبان بتصويرها وفهرستها لكي تكون متاحة لجميع الباحثين والدارسين في هذا المجال.
• ما هو دور التكنولوجيا ووسائل الإعلام الحديثة في نشر رسالة الرهبنة؟
من المؤكد أن الرهبنة كانت وما زالت الحافظة لكل الموروث الطقسي بالمخطوطات العديدة التي حافظ عليها الآباء والإخوة الرهبان. كانت الرهبنة ولا تزال المكان الذي يُحتفل فيه بكافة الطقوس الليتورجية. أما من ناحية دور الرهبنة اليوم، فمن المؤكد أنها تأخذ على محمل الجد وبكافة طاقتها الحفاظ على هذه المخطوطات وتصويرها وجعلها متاحة للدارسين. إلى جانب ذلك، تقوم الرهبنة اليوم بمشروع جديد وهو نقل هذا الموروث المكتوب ورقيًا إلى مرحلة جديدة، كما كان الرهبان دائمًا سباقين في تبني العلوم المعاصرة المتاحة لهم.
اليوم، تقوم الرهبنة بتحويل كافة الصلوات الطقسية إلى شكل إلكتروني مع ترجمتها التامة إلى اللغة العربية وإضافة كافة التسجيلات الصوتية المكافئة للألحان. بحيث تكون في متناول يد مؤمني كنيستنا في أصقاع العالم من خلال تطبيق على الهواتف الذكية والحواسيب وعلى شبكة الإنترنت. كما تم تطوير تقويم ليتورجي ذاتي التوليد يعرض الصلوات الطقسية بأكثر من لغة، مع مساعدات صوتية لأبائنا الذين سجّلوا بحناجرهم الجميلة هذا الموروث، ليعود مؤمنونا في كنيستنا الكلدانية إلى تذوّق والاستمتاع بغنى موروثهم الطقسي الليتورجي، فيتمسكون به بشكل أقوى ولا يتكئوا على استيراد ما هو غريب عن تاريخنا وحضارتنا ولغتنا.
من المؤكد أن الإعلام الكنسي أو الإعلام بشكل عام قد ظلم الرهبنات، ولكننا أول من نظلم أنفسنا إن لم نأخذ لغة هذا العصر ونتبناها. ومن هذا الجانب، قامت الرهبنة بتوفير أعضاء متخصصين في مجال الإعلام، فنحن الآن على العتبات الأولى لاستخدام هذه الوسائل المعاصرة من خلال موقع إلكتروني للرهبنة https://oaoc.net/، ونستخدم وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى لبث كافة نشاطات الرهبنة. واليوم، كما ذكرت، نقوم بتبني الهندسة الرقمية لإيصال صوتنا ونشاطنا إلى كافة مؤمني كنيستنا. بالرغم من أن دور القيادات الكنسية بشكل عام مهما كان مؤثرًا، إلا أننا من منطلق حبريّة الرهبنة واستقلاليتها، نعمل دون كلل أو ملل لكي نوصل صوتنا للعالم أجمع.
كيف يتم تمويل نشاطات الدير والرهبنة، وهل تعتمدون على دعم محلي أو دولي؟
الرهبنة ذات حق حبري، وتُمول نفسها من المعونات والهبات وحسنات القداديس، إضافةً إلى نشاطات الإخوة الرهبان الرعوية أو الأكاديمية، ومن ريع الأراضي الزراعية والأراضي المستثمرة التي أقامت الرهبنة فيها مشاريع لتسيير أمورها اليومية.
• هل تتلقى الرهبنة دعماً من الكنيسة الكلدانية أو أي جهات دينية أخرى؟
بالرغم من قلة عدد أعضاء الرهبنة، إلا أن النشاطات التي نقوم بها تعكس وجهة الرهبنة لخدمة أبناء كنيستنا الكلدانية وخدمة أبناء بلدنا. فالرهبنة كانت ولا تزال الحاضنة للكنيسة الكلدانية وخادمة لها، والتي تسندها على جميع الأصعدة. فإن كان أكاديمياً، فالإخوة الرهبان يدرّسون في الجامعات وفي الأخويات وفي الكنائس. وهذا الدور هو أساسي ومن صميم دعوتنا الرهبانية في هذه المؤسسة العريقة.
روحانية رهبنتنا تظهر من خلال تفانينا في عملنا وحبنا لبلدنا وكنيستنا.
كانت الرهبنة إلى حدٍّ كبير حاضنة للكنيسة الكلدانية، بل كانت مقرًا للكرسي البطريركي لكنيسة المشرق. وكان مؤسس الرهبنة هو من ثبت البطريرك يوحنا هرمز الثامن كأول بطريرك للكنيسة الكلدانية في سنة 1830، جالبًا معه الباليوم من روما. كما رفدت الرهبنة الكنيسة الكلدانية ببطاركة، وأساقفة، ورؤساء عامين، وكهنة غيورين ذوي نفوذ. وحتى يومنا هذا، من المؤكد أن آخر أسقف من رهبنتنا كان المطران إبلحد ربان الذي توفي سنة 1998، وهو آخر أسقف كلداني من رهبنتنا العريقة.
لكن الرهبنة قادرة اليوم أيضًا على دعم الكنيسة برهبانها من خلال الخدمات المتنوعة التي تقدمها، والمستقبل سيكون شاهدًا على ما قدمته، ولا تزال قادرة على تقديمه للكنيسة الكلدانية.
• كيف يتم اختيار الرهبان الجدد وما هي المتطلبات الأساسية للانضمام إلى الرهبنة؟
يجب أن تتوفر لدى المتقدم للرهبنة قناعات مسيحية راسخة، ورغبة صادقة في اتباع المسيح، ونيّة مستقيمة. كما يجب أن يتمتع بصحة جيدة، وحكم صائب، وطبع متوازن ومنفتح، ونضج نفسي وعاطفي، وثقافة إنسانية كافية، ونزاهة فيما يخص المصلحة الخاصة، وكفاءة للحياة الرهبانية، والقدرة على العيش في حياة جماعية.
يتضمن ملف المرشح وثائق الحالة المدنية، وشهادة العماد والتثبيت، وبيان الحالة إذا كان قد تجاوز الثامنة عشرة من عمره، وحسن السلوك من راعي الأبرشية، بالإضافة إلى معلومات أخرى ضرورية عن سيرته وأسرته.
هل هناك نظام تدريبي أو فترة إعداد خاصة بالرهبان الجدد قبل انخراطهم الكامل في الرهبنة؟
الراغبيّة والطالبيّة:
على كل راغب في الحياة الرهبانية قبل دخوله في مرحلة الابتداء، أن يعيش خبرة حياة مسيحية لمدة (3-6 أشهر). خلال هذه الفترة، يتم تحضيره لفهم المشورات الإنجيلية، وقوامها، وتطلّباتها، كما يتعرف من خلالها أيضًا على النظام الرهباني والأشخاص وعادات الدير.
مرحلة الطالبيّة:
بعد فترة الراغبيّة، ينتقل الراغب إلى مرحلة الطالبيّة (3-6 أشهر)، قبل ارتدائه ثوب الابتداء.
مرحلة الابتداء:
بعد فترة الطالبيّة تبدأ الحياة الرهبانية بمرحلة الابتداء، التي تدوم سنة واحدة قانونية متواصلة. في هذه المرحلة، يسعى المبتدئ، تحت إشراف معلمه، إلى إتقان فهم القوانين الرهبانية، ويثابر على تنمية الصلاة الشخصية والجماعية. كما يتأمل جيدًا في الفرائض اللازمة للنذور والفضائل التي ينبغي عليه أن يعيش بموجبها، وبالتالي يسعى لامتلاكها، ملتزمًا بنوع خاص من الممارسات الضرورية لكي يتمكن من اقتلاع الرذائل من نفسه والتحكم في قلبه وروحه. وهذا يساعده على الشعور بالفرح عند إعطاء ذاته للرب، ساعيًا إلى الكمال بتنمية الفضائل الخاصة التي تُطلب منه.
النذور المؤقتة:
بعد مرحلة الابتداء، يُجاهر الراهب بالنذور الثلاثة (الطاعة، والعفة، والفقر) لمدة ثلاث سنوات، يجددها كل سنة لثلاث مرات متتالية. في هذه المرحلة، يركز الراهب على توسيع ثقافته الدينية والإنسانية، وتعميق حياته الروحية، ويسعى للعيش ارتباطًا كاملاً بالمسيح استعدادًا للخطوة النهائية، وهي المجاهرة بالنذور المؤبدة.
النذور المؤبدة:
بعد انتهاء فترة النذور المؤقتة، يُجاهر الراهب بنذوره الدائمة، وينتمي رسميًا إلى الرهبنة. إن التنشئة الإنسانية واللاهوتية ضرورية لكل ناذر، وفقًا لإمكاناته، حتى وإن لم يكن معدًا للكهنوت. يمكن للراهب ذو النذور المؤبدة الارتقاء إلى الدرجة الكهنوتية بعد إتمامه للدراسات الفلسفية واللاهوتية، إذا اقتضت الحاجة وتوافرت الشروط اللازمة لذلك.
• ما هو تأثير الرهبنة الأنطونية الهرمزدية على الحفاظ على التراث الكلداني والديني في المنطقة؟
من المؤكد أن الرهبنة كانت هي الحافظ الرئيسي لكل الموروث الطقسي، من خلال المخطوطات العديدة التي حافظ عليها الآباء والإخوة الرهبان. أما من ناحية دور الرهبنة اليوم، فيعمل الرهبان بعد إنشاء الدير الجديد في أربيل، كما هو الحال في المؤسسات العالمية، وفقًا لكل المعايير الدولية لحفظ هذه المخطوطات في مكان آمن، وتصويرها رقميًا، وترميمها وقائيًا وعلاجيًا، وفهرستها بكافة التفاصيل، سواء كانت الفهرسة الكتابية أو فهرسة المحتوى.
ومن المؤكد أن الرهبنة تأخذ على عاتقها الحفاظ على هذه المخطوطات بكل طاقتها، وتصويرها، وجعلها متاحة للدارسين. إلى جانب ذلك، تقوم الرهبنة اليوم بمشروع جديد لتحويل كافة الصلوات الطقسية إلى شكل إلكتروني مع ترجمتها التامة إلى اللغة العربية، وإضافة جميع التسجيلات الصوتية المكافئة للألحان. وبذلك، تكون هذه المواد في متناول يد مؤمني كنيستنا في أصقاع العالم من خلال تطبيق على الهواتف الذكية والحواسيب، وكذلك عبر شبكة الإنترنت. يشمل ذلك تقويم ليتورجي ذاتي التوليد يعرض الصلوات الطقسية بأكثر من لغة، مع مساعدات صوتية لأبائنا الذين سجلوا بحناجرهم الجميلة هذا الموروث. بذلك، يعود مؤمنونا في كنيستنا الكلدانية إلى تذوق والاستمتاع بغنى موروثهم الطقسي الليتورجي، فيتمسكون به بشكل أقوى، ولا يعتمدون على استيراد ما هو غريب عن تاريخنا وحضارتنا ولغتنا.
هكذا ستكون الرهبنة، كما كانت في سابق عهدها، منارة للعلم والثقافة، وحفظ الإرث ودراسته ونشره، والمساهمة عالميًا في الدفاع عن هوية وكيان أبناء كنيستنا وأبناء شعبنا كأبناء أصلاء لهذا البلد.
• كيف تسهم الرهبنة في دعم التعليم أو الأنشطة الثقافية في المجتمع المحلي؟
لرهبنتنا شعار وهو: “بالصلاة والعمل نبشّر”. صلاتنا هي الصلاة الطقسية، وعملنا كان سابقًا عملًا يدويًا وعملًا رعويًا. لكن اليوم، قد تغير العمل اليدوي بسبب قلة عدد الرهبان، وتوجههم إلى أعمال أخرى، منها الأنشطة الأكاديمية مثل التدريس في الجامعات، والعمل مع الأخويات الكنسية، إلى جانب العمل الرعوي المستمر الذي يقوم به رهباننا في الأبرشيات الكلدانية المختلفة.
إلى جانب كل هذا العمل، تتبنى الرهبنة عدة مشاريع أخرى إنسانية، منها رعاية الأيتام، وكذلك مشروع جديد تقوم به الرهبنة وهو دار للمسنين، إلى جانب الضيافة الديرية المعهودة.
ما هو دور الرهبنة في تقديم الخدمات الإنسانية، مثل رعاية الفقراء أو المحتاجين؟
نتائج الحروب هي الدمار والخراب، وهذا أمرٌ لا شك فيه. من هذا المنطلق، كان للحرب العالمية الثانية تأثير مهم على ارتفاع عدد الأيتام والمشردين والانحرافات الخطيرة للأحداث في جميع البلدان التي شاركت في الحرب أو تعرضت للاحتلال. وقد امتد هذا التأثير إلى الشرق الأوسط، ومنه العراق الذي مرّ هو أيضًا بأيام عسيرة. فكان لا بد من أن تظهر عواقب تلك الأيام الوخيمة في المجتمع العراقي. ومن أخطر هذه العواقب ترحيل الناس عن منازلهم وتهجيرها (سواء كان ذلك لداعٍ سياسي أو بسبب التشغيل القسري)، مما أدى إلى تفكيك عدد كبير من العائلات. ونتيجة لذلك، ضاعف سوء التغذية من جهة، وعدد الجرائم ذات الطابع الاقتصادي مثل السرقة، وسوء الأمانة، والتهريب بكل أنواعه. كما أثار ذلك اضطرابات نفسية عند الأطفال بسبب ما يلحقه من أذى جسدي، مما شجعهم على الفرار من المدارس، وأدى إلى خلق نزاعات الشغب والتشرد في تجمعات على شكل عصابات صغيرة.
في ضوء هذا الواقع المرير، كان للرهبانية الدور الفاعل والبارز في معالجة وتذليل الصعاب وتخفيف وطأة المصائب التي خلّفتها تلك الأحداث. بما أن الرهبانية أخذت على عاتقها أن ترافق شعبها في كل ظروف حياتهم، وخاصةً الصعبة منها، أصرت على أن تبقى وفية لهذا العهد في مواجهة جميع المجريات المأساوية، حتى وإن كان الثمن غاليًا جدًا: رهبان شهداء وقعوا بدمائهم وثيقة حبهم لوطنهم وكنيستهم ورهبانيّتهم. عرفوا الطريق السالك إلى الأب، فساروا على دربه ومنحوه أغلى ما عندهم. أدركوا الحق فوقفوا معه وواجهوا الظلم بشجاعة وإيمان، برّهم أولًا، ثم بشعبهم.
بدافع محبتها الكبيرة لشعبها، فتحت الرهبانية أديارها لتستقبل المهجّرين من مناطق متعددة من العراق، فبلغ عددهم المئات. أمّنت لهم المعيشة من مأكل ومشرب وملبس ومنام، وأمضوا فيها وقتًا طويلاً. إننا نقولها بحق: كانت هذه رسالة إنسانية أرادت الرهبانية القيام بها على أكمل وجه إلى جانب رسالتها الروحية. وتاريخها شاهدٌ عليها بأنها ما تقاعست يومًا عن خدمة أبنائها المحتاجين في الأيام العصيبة وفي جميع الأزمنة المصيرية التي اجتازها العراق عبر مراحله التاريخية المتوالية.
لم تكتفِ الرهبنة بهذا القدر، بل إن هذه الحالة دفعتها إلى اتخاذ موقف يساهم في حل المشكلة ويخفف من الأضرار. ترجمت هذا الموقف بإنشاء ميتماً خاصًا يرعى الأيتام والمشردين الذكور، أطلقت عليه اسم “ميتم مار يوسف خطيب السيدة مريم العذراء”. وقد جاء هذا العمل بعد دراسة مستفيضة استغرقت عدة شهور، ضمن اجتماعات موسعة ومداولات جادة. وبعد تحديد موقعه الجغرافي ليكون ملاصقًا لدير السيدة حافظة الزروع من الجهة اليمنى، تم وضع حجر الأساس في 21 آب 1949، تحت رعاية وحضور الأنبا (المطران فيما بعد) إسطفان بلو، الرئيس العام، وبمعية مجلس مدبريه، وحشد من الرهبان والراهبات والإكليروس والمؤمنين. استمر المشروع لسنوات عدة، لكنه لم يستمر طويلًا بسبب ظروف اقتصادية وسياسية في البلاد، حيث اندلعت ثورة عارمة اشتدت وتيرتها في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات، مما أدى إلى إغلاق المشروع، مخلفًا وراءه الركام والحطام. وكادت الرهبانية أن تستعيد نفسها وتكمل المسيرة من جديد، لولا معاودة الحرب وضراوتها المعروفة، وانتقالها من منطقة إلى أخرى، مما ألحق الوطن بالشرذمة والتمزيق.
حتى عام 2000، حيث أعيد ترميم الميتم بحلة جديدة لاستقبال عدد آخر من الأيتام تجاوزوا الثلاثين، تراوحت أعمارهم ما بين الـ 6 والـ 17 سنة.
بعد أن رأت الرئاسة العامة للرهبانية أن الميتم لا يصلح للسكن والعيش الوافر بسبب تزعزع معظم أجزائه التي تآكلت بالرطوبة نتيجة المواد الأولية البسيطة التي استخدمت في البناء آنذاك، والتي جعلت منه هيكلاً هزيلاً ومتزعزعًا، ولضيق حجمه بالأيتام، وبفضل المحسنين والخيّرين الأكارم، سعت الرهبنة إلى بناء دار جديد للأيتام في 2 آب 2008. وصل عدد الأطفال في ذلك الحين إلى 26 طفلًا، ولا يزال الميتم مستمرًا في الخدمة بسخاء وفرح، حيث يقوم بإدارته الأخوة الرهبان بهمة وغيرة، ويتم تمويله ذاتيًا من الرهبنة ومن حسنات المؤمنين.